في هذا الزمن الذي يحتلّ فيه الإسلاميون المتشدّدون أعلى مراتب السلطة في معظم البلاد العربيّة، وبخاصّة في تلك التي ازدهر فيها “الربيع (عربيّ أو سلفيّ هو؟)”، وفي هذا الزمن الذي بلغ فيه هؤلاء أوج قوّتهم، يخرج علينا الكاتب الصحافيّ حازم صاغيّة بمقالة عنوانها “مسيحيّون ضدّ السنّة” (الحياة، 8 نيسان 2012). أقلّ ما يمكن أن يقال في هذه المقالة، الاستفزازيّة من ألفها إلى يائها، إنّها تفيض تشويهاً وتزويراً بأدوار المسيحيّين العرب وميولهم الفكريّة.
يعتبر صاغيّة أنّ “المسيحيّة الشرقيّة لم تغفر ولم تسامح”، منذ الفتح العربيّ مروراً بسقوط القسطنطينيّة، ابتعادها عن السلطة التي كانت في أيدي البيزنطيين، وأن المسيحيين “الروم” ما زالوا يحنّون إلى “مُلك أحالته القرون قاعاً صفصفاً”. كما يُدرج تبنّي المسيحيّين المشرقيّين منذ عصر النهضة العربية (هل كان ثمّة عصر للنهضة العربية لولا المسيحيين العرب؟) للعلمانية والاشتراكية والشيوعية والقومية العربية والقومية السوريّة فقط في خانة محاربة الإسلام وإبعاده عن السلطة.
هذه القراءة العوراء المرتكزة على وقائع عرجاء للتاريخ يعوزها الكثير من البراهين كي تستقيم وتبصر جيّداً. فالمسيحيّون المشرقيّون، طيلة أربعة عشر قرناً من عمر الإسلام، لم يكن لديهم طموحات إمبراطوريّة أو ملكيّة، ولم يتعاونوا مع الأغراب ضدّ المسلمين. حتى إبّان الحملات الصليبيّة استُبعدوا عن كراسيهم البطريركية، وعانوا مثلما عانى المسلمون من احتلال الفرنجة. وفي العصر الحديث قاوموا مع المسلمين الانتداب الأجنبي على بلادهم، في حين كان أشراف المسلمين وملوكهم يتآمرون مع المستعمرين ضدّ إخوتهم في الإيمان (الإسلامي طبعاً).
لم يكن هاجس المسيحيين العرب منذ قرنين سوى إيجاد صيغة مقبولة للشراكة في المواطنة التامّة مع المسلمين. لقد أرادوا إخراج بلادهم من الانحطاط الفكري والسياسي والاجتماعي الذي كانوا تحت وطأته في الدولة العثمانيّة إلى آفاق المدنيّة والدولة الحديثة. نعم، لقد كانوا ضدّ الحكم الديني، الخلافة وسواها، لكنهم لم يستنجدوا بالعسكر الأجنبي كي يستبدلوا حكماً دينياً بحكم ديني. وأغلب المفكّرين المسيحيين لم يكونوا “مسيحيين” ممارسين، وبعضهم كانوا ملحدين، بل تبنّوا الأفكار العلمانية غير الدينيّة. غير أنّ فكرهم راق لغالبيّة المسيحيين الذين وجدوا في “فصل الدين عن الدولة” الحلّ الأمثل لمستقبل زاهر وواعد.
المسيحيّون المشرقيّون لا تروادهم أحلام الإمبرطورية عن أنفسهم. الإسلاميون، على اختلاف مواقعهم وتفاوت سلفيّتهم، هم مَن تراودهم أحلام الخلافة عن أنفسهم، وليس رئيس الوزراء التركي أردوغان ممّن لا تدغدغهم هذه الأحلام. المسيحيون المشرقيون يريدون “الستر”، يريدون العيش بكرامة في هذا المشرق العزيز، يريدون ألاّ يعودوا إلى نظام “أهل الذمّة”، وإن وضع هذا النظام قبّعة المواطنة والمساواة، أو طربوش “الدولة المدنية الديموقراطية” التي يروجون لها، وليس فيها من المدنية والمواطنة سوى قبض الريح.
“مسيحيون ضدّ السنّة”، كلا يا أستاذ صاغيّة. مسيحيون ضدّ الشيعة، كلا ثانية. مسيحيّون ضد الإسلام المتشدّد الذي يريد العودة ببلادنا إلى القرون الوسطى، نعم. مسيحيون ضدّ أن يسود نموذجا السعودية الوهابي وإيران “ولاية الفقيه” في أوطاننا، نعم. مسيحيّون مع السنّة والشيعة والعلويّين والدروز من أجل المساواة في الحقوق والواجبات، نعم. ثمّة مثل لبناني يقول “كلّ البورة (الأرض غير المحروثة) من النصرانيّ”، هذا فحوى مقالة صاغيّة. لكن واقع الأمر أنّ التصحّر سمة الغالبية من العرب والمسلمين. في هذا التصحّر ابحثوا عن أصل الداء وصفوا الدواء.