فليسد المثل الأعلى للإيمان
في صف الرسل الاثني عشر، السابع بالترتيب يكون الرسول القديس توما. ومن كل الحوادث التي ذكرتها لنا الأناجيل المقدسة عن القديس الرسول توما، فالحادثة الأكثر شهرة وأهمية هي تلك التي حدثت بعد القيامة.
دبرت العناية الإلهية الأمور هكذا، بأن لا يكون القديس توما مع الرسل الآخرين في اليوم الأول للقيامة، عندما حضر إليهم الرب القائم. وعندما قال له الرسل <<قد>> ذاك لم يصدِّق، وطلب براهين.
بعد ثمانية أيام عندما كان الرسل مجتمعين أيضاً ومعهم توما، حضر الرب ثانية وعندها توما صرخ وقال: “ربي وإلهي”. واحدة من البراهين العظيمة والشهادات عن القيامة الإلهية هي برهان القديس توما.
توما لم يكن جاحداً، لم يكن من أولئك الذين لا يريدون أن يؤمنوا. يريد أن يرى، أن يلمس لكي يؤمن. فالجحود شيء والتفتيش الصريح أمر آخر. الجحود يفترض المنطق بدون أن يستند عليه، ينطلق ليس من أجل الإيمان ولكن من أجل الجحود، يفتش عن دعائم ومبررات لجحوده. بينما التفتيش الصريح هو ميل طبيعي للنفس البشرية.
يطلب توما البراهين ليس لكي لا يؤمن، لكن لكي يؤمن، نيته طاهرة ودوافعه مُخلصة. لهذا حالما يراه لم يعد ينشغل بأمور أخرى، ولا يفحصه أكثر، يتقدم بعيداً من ذلك الذي يراه إلى الذي لا يراه، يقفز من المنظور إلى اللامنظور واللامحسوس. ويعبر ليس عن إيمان بسيط، لكن عن عقيدة عميقة، وعن اعتراف حقيقي. يرى الرب ويعترف ويعلن عن ألوهيته: “ربي وإلهي”. الصعب التصديق يشهر باعتراف الإيمان.
إن حالة الرسول توما لم تكن فريدة، ففي توالي القرون المسيحية كثيرون كانوا يشبهونه في الصفات وفي موقفه في موضوع الإيمان. أناس ودودون مثله، لكنهم كانوا يحكِّمون الأمور عقلياً، فلكي يقبلوا حقيقة الإيمان كان يجب أولاً أن تمر هذه الحقيقة على مصفاة فكرهم الدقيقة، يفحصونها بالمنطق لكي يقبلونها.
وهؤلاء المسيحيون لم يكونوا مرفوضين من الرب، فلطول أناته يترك لهم الفرصة لكي يدخلوا طريق الخلاص، يقبل أن يلمسوه، ولا يرفض البحث الصريح كما كان مع اليهود عندما كان يؤكد لهم: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياةً أبدية” (يوحنا39:5).
وذلك الملموس من توما ليس حاضراً بيننا كما كان عندها، لكن هنا جسده السري الذي هو الكنيسة، يقول إلى الأمام يا من تقبلوا أن الكنيسة هي “عمود الحق وقاعدته” (1تيمويوس15:3)، وأن المسيحية ليست فقط ديانة حقيقية (حقة) لكن هي الحقيقة الساطعة نفسها، تعالوا إلمسوا التاريخ من الماضي منذ ألفي سنة وستتأكدوا “أني أنا هو” (لوقا39:24).
إن قديسي الله الأحياء في سر الكنيسة، الحضور المستمر للمسيح، يقرّون بتعليمهم وحياتهم وخبرتهم العميقة: “قد رأينا الرب”. كلمة القديسين هذه هي مرفوضة من البعض على أنها خارج الحقيقة، والبعض الآخر تولّد عندهم ردة فعل حماسية: “إذا لم أرى لا أومن”.
ردة الفعل هذه لا تبقى في مجال الفكر، لكن مثل التفتيش تقود إلى اختبار مبارك للدخول الكلي في حياة الكنيسة، تعطي النتيجة التي أعطتها ردة فعل الرسول توما. التفتيشات عندما يكون لديها الصراحة والجرأة فهي مباركة. الجرأة لا تعني الوقاحة لكن العزم والشجاعة في رفع نير وصايا المسيح الخفيف. إنها نكران الذات الذي يشفي الذهن من الأنانية، والقوة الروحية التي تغلب المنطق الجسداني.
ربنا لم يكن مجرد نبي أو معلم، لكن ابن الله الذي صار إنساناً لكي يجعل الإنسان إلهاً بالنعمة. هذه هي شهادة كنيستنا القائمة على الإيمان التي تتكلم عن <<أنه>>والتي مؤسسها الله ـ الإنسان. شهادتها هذه التي تصبو دائماً إلى خلاص البشر تصدر إلى كل إنسان في كل عصر. إنسان المنطق دائماً يعرض الطلب لبراهين ملموسة، بينما في نفس اللحظة لديه أمامه الإله ـ الإنسان القائم. لا يستعمل إنسان الإيمان البراهين الملموسة كحجج لإيمانه، ولا يستعمل معلومات حواسه عن المسيح القائم، لكن على العكس يسبح القيامة ويسجد للقائم، وهذه تكون حياة كنيستنا.
الرسول توما عندما وُجد في اجتماع التلاميذ، ممهداً للكشف العظيم قبل زيارة المسيح. وهكذا بيّن لنا معنى التحضير بأقوال <<وبخبرة>>، حيث في اجتماع الكنيسة نعيش تأكيد القيامة.
كل من يبقى غير مقتنع بتعليم التاريخ الذي لا ريب فيه، فليرى وليلمس كتوما عصره الحقيقة الحالية، حياته الخاصة، كلام المسيح هل هو حقاً كلمة الحياة والحقيقة، هل المسيح قام حقاً من بين الأموات وهو يحكم إلى الأدهار. فليبسط يده وليلمس حقيقته مجرباً أن يطبقها، مبتدئاً بالتوبة والإعتراف بحياة جديدة في المسيح. فلنجاهد حتى يسود المثل الأعلى للإيمان في فكرنا وحياتنا. المسيح قام