الكتابة شهادة لا تفنى

الأب جورج مسّوح Monday April 30, 2012 250

الكتابة موهبة تُصقل بالممارسة. هي فنّ يتطوّر مع كلّ كلمة تصبح حبرًا على ورق. هي حاجة ماسّة تنفع القراء، ولو بعد آلاف السنين. هي الوسيلة الوحيدة التي تمدّ بالحياة الأفكار التي يضجّ بها العقل والقلب. هي الفضل لها بنشر المعرفة والعلم والنقاش المؤدّي إلى بلورة الآراء وتسديدها.

لولا الكتابة، كيف كانت وصلت إلينا الأناجيل والرسائل؟ كيف كان وصل إلينا التراث الكنسيّ وكتابات الآباء المدافعين عن العقيدة المستقيمة؟ كيف كان لنا الحظّ بالاطّلاع على عظات القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم وسواه؟ كيف كان لنا السبيل إلى التعرّف بالأدب النسكيّ؟ كيف كنّا عرفنا تاريخ الكنيسة ومعلّميها العظام؟ كيف كان لنا أن نقرأ سير الشهداء والقدّيسين وجهاداتهم ومآثرهم الحميدة؟

صحيح أن ليس كلّ ما يُكتب ينفع على الدوام، وليس كلّ ما يُكتب يستمرّ حقبًا طويلة. لكن، لا يعود للكاتب أن يقرّر مدى نفع ما يكتبه، بل للقارئ، وإن بعد آلاف السنين، أن يقرّر ذلك. هو عليه أن يؤدّي واجبه، فيدوّن أفكاره. وكما قال الأديب اللبنانيّ أمين الريحاني: “قل كلمتك وامشِ”، ليس للكاتب أن ينتظر حصاد البذار التي رماها في حقله. على الزارع أن يزرع على سبيل الرجاء. وإن وقع بعض بذاره على الصخر أو بين الشوك، فلا بدّ من أن تقع بعض البذار في الأرض الصالحة، فتثمر ثمارًا تغذّي مَن يجنيها.

لكن، في ما يختصّ بالكتابة ذات الصلة بالشؤون الدينيّة، لا مناصّ من بعض الضوابط. فالكاتب مدعوّ إلى التعبير عن رأي كنسيّ مبنيّ على الأصول والقواعد المسلّم بها. فكلّ كتابة، لا تأتي بقراءة جديدة وتأوينيّة للموضوع المعالَج، لا قيمة لها. وليس التنوّع في الآراء خطأ، طالما يلتزم الكاتب بالخطّ الكنسيّ ولا ينحرف عنه. وعندما نقول بالتنوّع وبـ”قراءة جديدة وتأوينيّة”، لا نقصد بذا البدعة أو تعليمًا مخالفًا لأسس الإيمان المسيحيّ. والفكر الكنسيّ رحب إلى حدّ القبول برأيين يبدوان متنـاقضين للوهـلة الأولى، لكن لكلاهما المرجع الثابت في التـراث الكنسـيّ. دونكـم مسألة “الخلاص الكلّيّ” مثالاً.

ليس كلّ مَن أمسك قلمًا مدعوًّا إلى الكتابة. غير أنّ صاحب الفكر، أو صاحب الرأي مدعوّ إلى التعبير عمّا يجول في عقله، فيضعه في متناول القرّاء. فثمّة أشخاص، إذا جالستهم، تراهم ينطقون بدرر الكلام وأطيبه. هؤلاء، إذا لم يدوّنوا دررهم، يحرمون الكثيرين ممّن قد ينفعهم ما يفكّرون فيه، ويدفنون وزناتهم ومواهبهم التي، إن استثمــروها في الكتابة، يكـونون قد أدّوا قسطهم وشهادتهم، وأضافوا إلى بنيان الكنيسة لبنة تحلّيها، وتزيد من بهائها.

هؤلاء المدعوّون إلى الكتابة دونهم البدء بالتدرّب عليها. لا يولد المرء كاتبًا، بل يصيره. وهذه الصيرورة تستمرّ وتدوم، ولا تبلغ إلى نهاية لها. فالكاتب، أمام كلّ مقالة يدوّنها، كأنّه أمام امتحان معرّض فيه للنجاح أو للسقوط. الثقة العمياء بالنفس تخدع الكاتب، وقد تهلكه بالغرور والاعتداد بالنفس. هو كالجندي، الذاهب إلى الحرب، عليه أن يكون مدجّجًا بالأسلحة الكافية، ومدرّبًا تدريبًا صارمًا على كيفية السلوك في حقول الألغام والخنادق والمتاريس… عليه أن يملك الوسائل والطرق التي تضمن له العودة سالمـًا.

من هنا، على المدعوّ إلى أن يصير كاتبًا أن يمتلك اللغة وقواعدها وأصول الصرف والنحو. ولا يمكن المرء أن يكون كاتبًا إن لم يقرأ على الدوام، بالإضافة إلى الكتب الدينيّة، جميع أصناف الأدب، الشعر قديمه وحديثه، والرواية، والقصّة، والمسرح، والتاريخ، والفلسفة، والسياسة، وبعض مراجع العلوم الإنسانيّة كعلم الاجتماع والتربية والأنتروبولوجيا… كما لا يمكنه أن يكتب ما يضيف جديدًا إن لم يكن ملمًّا بكلّ جوانب الموضوع الذي يريد معالجته عبر الإدلاء بدلوه فيه. ويستحسن أن يعرف لغات عدّة كي يطّلع على الأدب العالميّ، والمنشورات الحديثة في ميدان اختصاصه…

المدعوّ أن يكون كاتبًا مدعوّ إلى أن يكرّس ذاته للقلم والورق. وفي تكريسه هذا، يكرّس ذاته لخدمة الكلمة ونشرها. المهمّ أن يجرؤ فيخطّ أولى مخطوطاته. رحلة الألف ميـل تبدأ بخطـوة واحدة. فمتى يخطوها المتردّدون؟

 

مجلة النور، العدد الثالث 2012، ص 114-115

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share