حكايا وإيقونات!

mjoa Monday May 21, 2012 166

في سِفر التّكوين أنّ الرّبّ الإله امتحن إبراهيم، فقال له: “خذ إسحق ابنك وحيدك الّذي تحبّه واذهب إلى أرض موريّة، وهناك أصعده محرقة على جبل أدلُّك عليه” (22: 2). سار إبراهيم إلى الموضع ثلاثة أيّام، وكان الله دليله. هناك بنى إبراهيمُ المذبح، وهناك أعطاه الرّبّ الإله كَبْشًا عوض ابنه فقدّمه ذبيحة.

     وفي سِفر صموئيل الثّاني (الملوك الثّاني وفق السّبعينيّة) أنّ الرّبّ الإله غضب على بني إسرائيل فترك الشّيطان يثير داود فأحصى الشّعب مغترًّا بعدده وعسكره. وكانت محصّلة ما جرى أن نزل بالشّعب وباء حصد الكثيرين. فلمّا بلغت الضّربة بيدر المدعو أرونا اليبّوسيّ، وهو من الغرباء الّذين دخلوا في عبادة الله، نظير راعوث وراحاب، قال داود لملاك الرّبّ: “أنا الّذي خطئت، وأنا الّذي فعلت السّوء، وأمّا أولئك المساكين كالخراف فماذا فعلوا؟ فعاقِبني…” (24: 17) في ذلك اليوم، جاء جاد النّبيّ من لدن الله وقال لداود: “إصعد إلى بيدر أرونا اليبّوسيّ، وأقم هناك مذبحًا للرّبّ”. فاشترى داود البيدر وبنى هناك مذبحًا فأشفق الرّبّ على الشّعب، وكفّت الضّربة عن إسرائيل.

     أَثَمَّةَ علاقة بين جبل الموريّة، حيث أقام إبراهيمُ مذبحًا، وبيدر أرونا أو أرنان اليبّوسيّ، حيث أقام داود، هو، أيضًا، مذبحًا؟ في سِفر أخبار الأيّام الثّاني أنّ المكان الّذي بنى فيه سليمان بن داود هيكل الرّبّ في أورشليم، كان في جبل الموريّة حيث تراءى الرّبّ لداود أبيه، تمامًا في المكان الّذي أعدّه داود في بيدر أرنان اليبّوسيّ (3: 1).

     فأمّا لفظة الـ”موريّة” فمعناها “حيث الله يُرى”، ما دام أنّ إبراهيم، أبا المؤمنين، وداودَ، مسيحَ الرّبّ، عايناه هناك، في شخص ملاك الرّبّ. فإذا كان القدّيس الرّسول متّى الإنجيليّ قد استهلّ إنجيله هكذا: “هذا نسب يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم”، فإنّ ابن الله المتجسّد يكون سليلَ المعاينة، وإيّاه الملاك والمكان “حيث الله يُرى”، أي، عمليًّا، الـ”موريّة”، العُلويّة، ما دام أنّ الرّبّ يسوع هو “نور العالم” (يوحنّا 8: 12)، الّذي مَن رآه “رأى الآب” (يوحنّا 13: 9). يسوع هو الله يُرى وحيث يُرى!

     في الرّبّ يسوع يصبّ كلّ ما تَصوّر أيقونة، من إبراهيم إلى داود إلى يسوع الّذي يُدعى المسيح. هذا هو المسيح، نَفَس أنوفنا، وما تاقت إليه أفئدتنا وما وعيناه ولمّا نَعِهِ، منذ البدء، إذ كان حركة فينا؛ الّذي فيه وبه وله كان كلّ شيء وفيه يقوم الكلّ (كولوسي 1: 16 – 17)!

     هذا هو الجبل، لا بل الجبال الّتي إليه أشارت منذ البدء. “رفعتُ عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرّبّ صانع السّماء والأرض” (مزمور 120: 1). من هناك أَلتمسُ العونَ لأنّ الجبل نقطة تماس الله بالنّاس، والسّماء بالأرض. في الجبل أُعطي لوحا الوصايا بموسى للشّعب، وفي الجبل تراءى موسى وإيليّا، وتجلّى لاهوت مسيح الرّبّ نورًا. الجبل، في نهاية المطاف، أيقونة تجسّد ابن الله؛ إليه نزل الإله ليقيم في خيمة من نسْجِ أجسادنا، وبه نصعد إلى كبد الله الآب. صار اللهُ بيسوع فينا لنصير نحن به في الله. هناك، في الجبال، تقام المذابح. ينزل إلينا مسيح الرّبّ ذبيحًا، لا إلى حيث نحن في جبّ أهوائنا وخطايانا، بل إلى حيث علينا وبإمكاننا أن نرتقي. لا ينزل إلى خطايانا، بل إلى تخوم صور وصيدا خطايانا، حيث التقته المرأة الكنعانيّة لتُشفَى ثمرة رحِمها. الرَّحِمُ وطن لحياة النّاس! التجسّد كان الذّبيحة الإلهيّة بامتياز، والذّبيحة كائنة، أبدًا، بأجسادنا. ذبيحة محبّة تعبيرها ذبيحة دم. ذبيحة بذبيحة. دم بدم. أعطِ دمًا وخذ روحًا! المذبح والذّبيحة، في المدى، واحد! في المحبّة يلتقيان! “انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيّام أُقيمه… وكان يقول عن هيكل جسده” (يوحنّا 2: 19، 21)!

     أمّا إبراهيم فأب لأمم كثيرة. صورة آدم الجديد. تشوّفٌ إلى آدم الجديد. عليه دلّ وإليه شهادته. أبو المؤمنين هو لأنّ الإيمان من الآمين، ومسيح الرّبّ هو آمين الآب وآميننا!

     وأمّا داود فالمنسحِق الّذي بانسحاقه انسحقت خطاياه وخطايا الشّعب على كثرتها، وحكى مسيحَ الرّبّ! “الذّبيحة لله روح منسحق. القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله”. “عاقبني أنا…” قال داود. لمّا نَعُدْ في مستوى العقاب على خطايا، بل في مستوى الحبّ الكبير وروح الفداء الأكمل الّذي استدعى مَن قيل فيه: “أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا” (إشعياء 53: 4 – 5)!

     إسحق ابن إبراهيم الوحيد، “الّذي تحبّه”، أيقونةُ الوعد، سرورُ أبيه، الّذي يُعلِن مَن أَعلن عنه الآب: “هذا هو ابني الحبيب الّذي به سُررت”. الابن سرُّ أبيه، وابن الله الوحيد، كإسحق إبراهيم، يُعلِن مَن لم يسبق له أن اعتَلن، أبانه، كشفَه: “الله لم يره أحد قطّ. الابن الوحيد الّذي في حضن الآب هو خبّر” (يوحنّا 1: 18)!

     بيدر أرونا كان خطّ الفصل بين الوباء والسّلامة، بين الخطيئة والبِرّ، بين عتاقة الموت وجدّة الحياة. والبيدر كان مسيحَ الرّبّ وإليه. هو حمَل خطايانا في جسده (1 بطرس 2: 24)، ليُبطَل جسدُ الخطيئة (رومية 6: 6)، كي لا نعود نُستَعبَد أيضًا للخطيئة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبِرّ (1 بطرس)! إذ ذاك تكُفّ ضربة الشّرّير، بسماح الله، عن إسرائيل الجديد. “وعبدي البارّ بمعرفته يبرِّر كثيرين وآثامُهم هو يحملها… من أجل أنّه سكب للموت نفسه” (إشعياء 53: 11، 12)!

     أورشليم قلبُها الهيكل المسيح وامتدادُها جسدُه. من هنا سلامُها وكونها مدينة السّلام. هي الكنيسة مدى مسيح الرّبّ الّذي يضخّ فيها سلامَه أبدًا. “سلامي أُعطيكم لا كما يُعطيكم العالم”. لذا عينُنا، هنا، على أورشليم العلويّة الّتي أرسى السّيّد الرّبّ الإله قواعدَها، بجسده، في قلوبنا، إلى أن تنزل علينا في ملئها “المدينةُ المقدّسة أورشليمُ الجديدة… من السّماء، من عند الله، مهيّأةً كعروسٍ مزيَّنةٍ لرجلها” (رؤيا 21: 2)!

     أمّا بعد، فيوم كانت الأرض خربة وخالية (تكوين)، وقال الله ليكن نور فكان نور؛ وكذا يوم جَبَل الرّبّ الإله آدمَ ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدمُ نفْسًا حيّة (تكوين)؛ يوم ازدوج النّور بالأرض وانبرأ آدم ترابًا وضياءً ونَفَسًا من روح العليّ، باتت الأرض ومَن فيها حكايا مسيح الرّبّ تتفتّق في تمخّض البشريّة، في حركةٍ تلقائيّة صوب النّور حتّى في سقوطها! أليست الخطيئة نورًا في عين صاحبها؟ بابل سادت منذ السّقوط إلى أن جاء الشّاهدُ للنّور والحقّ “لكي يؤمن الكلّ بواسطته” (يو 1: 7)! داود اشترى بيدر أرونا بخمسين مثقالاً من الفضّة (2 صموئيل/ 2 ملوك 24: 24)، ويسوع بيع بثلاثين من الفضّة، ومسيحُ الرّبّ خرج إلى العالمين بائعًا جوّالاً، لا مكان يسنِد إليه رأسَه، ينادي: “أيّها العطاش جميعًا هلمّوا إلى المياه، والّذي ليس له فضّة تعالَوا اشتروا وكلوا، هلمّوا اشتروا بلا فضّة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا” (إشعياء 55: 1)!

     كلّ ما في الأرض وكلّ التّاريخ أيقونة تلو الأيقونة لِمَن استقرّ فينا، بدءًا، ليأتي بنا إلى ذاته. “حبيبي أبيض وأحمر… عيناه كالحمام… مغسولتان باللّبن” (نشيد 5: 10، 12). هوذا المتكلّم بالبِرِّ العظيمِ للخلاص، الّذي يحكينا دمَه حبًّا وولهًا. هو “الآتي من آدوم بثياب حمر… قد دُستُ المعصرة وحدي ومن الشّعوب لم يكن معي أحد” (إشعياء 63: 1، 3)

     حكايا أنفاسنا أيقونات مسيح الرّبّ!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share