وظيفة الكاهن أن يقود الناس الى الله. غايته من إقامة القداس والأسرار أن يجعل المؤمنين يذوقون الرب ويتقرّبوا منه. لا تستطيع الجماعة أن تقول: مات الكاهن ونحتاج الى قداس، فلنفتّش عمّن يقدر أن يُقيم الخدمة الإلهية ويكون جميل الصوت ولا يعرف شيئا عن الدين. هذه حقبة من التاريخ انتهينا منها.
عندما نقول ان هذا الرجل يجب أن يكون موهوبا للرعاية نعني بهذا أنه قادر أن يوصل كلمة الله. هذه الكلمة تفعل أحيانًا بذاتها اذا سمع الإنسان الإنجيل، ولكنها في الواقع البشري تتطلب أن يحملها إنسان تكون قد وصلت الى فهمه ويُدخلها الى فهم الآخرين بالوعظ او بالاتصالات البشرية، بالمحادثات والزيارات والإرشاد. المسيحية قائمة على أن الله صار إنسانًا ليُكلّم البشر. جعل نفسه على صعيدهم. اما الذي يكتفي بإقامة القداس فيجعله مسموعًا ولكن معناه يصل أو لا يصل.
كلمة الله مائدة اي طعام موضوع أَعَدّه الله لأحبّائه. ولكن لا بدّ من خادم ينقل إليك هذا الطعام. في الفنادق هو محترف. في بيتك هذا عمل ربّة المنزل. اما الاتكال على فاعلية الكلمة بلا ناقل لها فهذه مغامرة كبرى تُعفيك من الدرس ومن أن تتحول الكلمة الى شخصك وقلبك وذهنك وتنتقل الى شخص آخر وقلبه وذهنه. الكنيسة تقوم على الوساطة التي لا تكون الا اذا وُجد كهنة عالمون بالمسؤولية التي على عاتقهم.
الطريقة المألوفة في أيامنا لإيجاد وسيط هي مدرسة لاهوتية او معهد لاهوتيّ او تدريس لإعداد كهنة. ولكن أن نأتي بإنسان من مهنته ليصير كاهنًا دون إعداد علميّ فهذا لا يصير شيئًا. يبقى أن هناك من اتصل بحركة روحية لشبابنا قضى فيها سنوات واحتكّ بمرشدين وقرأ كتبًا كثيرة، فهذا يفحصه الأُسقف ويُقدّر استعداده لإعطاء الفهم.
نتكـلم كثيـرًا عن افتقـاد العـائـلات او الأفـراد. اذا ظنّ أحد الكهنـة نفسـه راعيـًا لأنه عند وصوله الى عائلة يسأل عن صحتها ووضع الأولاد في المدرسة، كان هذا اتصالا اجتماعيا وليس رعايـة لأن هذه مبنية على كلام الله. اذا كان هذا الكاهن لم ينطق بالكلمة الإلهية فلا يذكر مثلا آيات من الكتاب المقدس او من سيرة قديس او كان غير قادر على أن يُجيب على سؤال يُطـرَح عليـه، تكـون هذه الـزيارة ضياعًا للوقـت. الراعي من ساق الرعية الى المراعي الخُضر لتأكل وتشرب، فإذا لم تُعـطَ غـذاء تضعـف وتمـوت.
عندما قال يسوع عن الراعي الصالح وعن نفسه: “الخراف تتبعـه لأنهـا تعرف صوته” (يوحنا 10: 4)، نأخذ من هذا القول أن هذا الراعي عنده صوت وأما الأخرس فليس عنده صوت. وعندما يقـول: “أَعرف خاصتي وخاصتي تعرفني” (يوحنا 10: 14)، نفهم من هذا أن الكـاهن يعـرف بالأقـل كل العـائـلات إن لم يستطع أن يعـرف كـل فـرد والفـرد يعرف الراعي. عشـرات مـن النـاس قالـوا لنا: أنا مقيم في هذه القـريـة منذ سنـوات ولـم يدخـل بيـتي كـاهـن. طبعـًا كـان عليهم أن يذهبـوا الى الكاهن ويقـولـوا: صرنا نحن عنـدك. ولكـن إن لم يفعلـوا، فهو المسؤول أن يفـتّش عنهم ليجعلهم للمسيـح أكثر مما كانـوا، ويأتي بهم الى مراعي الخـلاص، ويـدلّهم على باب الكنيسة، ويرشدهم الى اقتناء كتاب الله وكتب أُرثـوذكسيـة اخرى. كل منا يحتاج الى إرشاد والى افتقـاد اي الى محبـة.
إلى اي حد يجب ان يفتقد؟ الجواب في يوحنا: “أنا أضع نفسي عن الخراف” (يوحنا 10: 15). المعنى أنّي أموت عنها. مات كهنة في لبنان لما انتشر فيه الطاعون لأنهم لم يريدوا أن يتركوا الرعية. الوباء لا يحصل كل يوم، ولا يتعب الكاهن اذا قام كل يوم بزيارة بضعة بيوت. ولكن الذي يتململ من رؤية نفسه متعبًا فيداري نفسه بما يفوق المطلوب، فهذا ما كان عليه ان يقبل الكهنوت.
ربما لم يسمع أحد الإخوة بهذا وظنّ أن القضية كلها طقوس. عند قراءة هذه الأسطر، هذا الرجل يجب أن يفهم ويُدرك أنه مخصّص لله ولخدمته عن طريق الكلمة. بعد ان كان قليل العلم، فليبدأ بالدراسة للمرّة الأولى. عندي كهنة صاروا ممتازين بعد أن فهموا هذا وأدركوا أن الكهنوت لا ينفصل عن التعب. هذا هو حمْلُ صليبٍ ثقيل، ولكن محبتنا ليسوع تتخطّى كل صعوبة.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان).
رَعيّـتي تصدرها أبرشيـة جبيـل والبتـرون للـروم الأرثـوذكـس