الخميس الماضي يسمى عندنا خميس الصعود لقول الكتاب في لوقا ان المسيح بعد القيامة فيما كان يبارك تلاميذه انفرد عنهم وأُصعد (همزة مضمومة) إلى السماء. واما في أعمال الرسل ومؤلفها لوقا نفسه جاء «ارتفع إلى السماء». هذا حدث أربعين يومًا بعد القيامة كما ورد في مطلع أعمال الرسل.
ماذا يعني انه ارتفع إلى السماء؟ ما السماء؟ ليست السماء مكانا وقد رأينا في ظهورات السيد في الأناجيل ان يسوع بعد القيامة ما كان محصورا في مكان ولكنه يدخل المكان أو يُشاهد (ياء مضمومة) في مكان. في سياق الحديث عن الصعود جاء القول انه ارتفع على سحابة والكلمة يجب ان تؤخذ رمزيا فالسحابة في العهد القديم ترافق الحضرة الالهية وتظهرها. الفكرة اذا ان جسد المسيح رفع إلى الآب أو جلس على عرش الآب (أعمال 2: 30). المعنى طبعا ان الجالس هو يسوع القائم من بين الأموات بجسده. وهذا ما أكده دستور الإيمان في القرن الرابع »وجلس عن يمين الآب».
عندما يجلسك كبير القوم عن يمينه فهو ليدل انه يعترف لك بكرامته نفسها واذا أجلسك في مكان آخر لا يقول شيئا عن كرامتك أو عن تساويك. كل العهد الجديد يتكلم عن مساواة الابن للآب وعن انه لم يترك احضان الاب لما نزل إلى هذه الأرض.
لا معنى للصعود اذا حسبنا ان ألوهة المسيح اعتبرت مساوية لألوهة الآب لأنها هي إياها. هناك اذًا شيء آخر عن ألوهة المسيح. هو يشريته المكملة بالآلام أُعلنت (همزة مضمومة) واحدة مع ألوهة الآب. المسيح ليس دون أبيه وقد كفرنا السنة الـ325 في المجمع المسكوني الأول اريوس لأنه قال ان المسيح دون ابيه ومخلوق. القول بمخلوقية المسيح يلغي كل سر الخلاص ويبطل فاعلية الصلب. بلا الوهية المعلم كل الفداء لفظ لا معنى له.
المسيحية، معتقدا، هي ان ابن الله الوحيد المشارك الله ازليته هو الذي تجسد وبقي إلها طوال حياته على الأرض وكانت ألوهيته مصاحبته على الصليب وان لم يقع الموت عليها ورافقته في القبر وبعد القبر بمعنى ان جسده لا يحصرها. فعند تجسد ابن الله لم يحد جسده ألوهته وظلت مالئة السماوات والأرض. وعند دفنه كانت مالئة السماوات والارض.
واذا دخل المسيح كيان البشر عند تناولهم جسده ودمه الكريمين لا يحده الانسان المتناول ويبقى مالئا السماء والارض. كذلك السماء لا تحده لانها ليست مدى.
# #
وهي تعرف به ولا يعرف بها. واذا قلنا ان القديسين في السماء لا نوحي بأنهم في مكان فإنهم مع الله أو في الله. ومعيتهم هذه اي صفة كونهم متحدين بالرب هي سماؤهم وهي تسمية تدل على التحاقهم بالرب أو دخولهم فيه. وهذا معنى العبارة «في المسيح» التي يكررها بولس مرات عديدة.
فالله من حيث هو اياه لا يصعد ولا ينزل ولكن الانسان يصعد اليه بالنعمة ويغادره بالخطيئة. والصعود سماؤه والسقوط جحيمه الا اذا انقذه ربه بالرحمة. ليس من فوق ولا من تحت اذ الله فيك وانت فيه وهذا فيه حديث يطول. وانت لا تكون حقا ما لم تكن فيه بعد ان كنت وراءه. تبقى في مخلوقيتك في اية حال ولكن لها ان تكون منورة أو ان تكون مظلمة. واذا كانت نفسك مظلمة فكأنها عدم. جوهريا من حيث مخلوقيتها هي قائمة وتبقى على محبوبيتها في تنورها وعتمتها إلى ان تبدد العتمات بالتوبة فيحل فيها الروح القدس نورا وكأنها خلقت منذ بداءة التكوين حسب قوله المبارك: «ليكن نور فكان نور».
هنا لا بد ان اعرج على القرآن بلا استفاضة اذ بعد قوله «وما قتلوه يقينا يقول بل رفعه الله اليه» (النساء 158). توا بعد هذا يتكلم على موته وقد أكده في سورة مريم بقوله: «والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا» (الآية 33). هل حصل رفع الله للمسيح قبل الموت كما يبدو من سورة النساء؟ في هذه الحال لماذا يجب ان يموت اذ أكد الله هذا الموت؟ ليس من مجال في هذه العجالة لاستعرض التفاسير المختلفة لموته. فقط ما اردته كشفه ان القران يذكر رفع الله للمسيح اليه.
# #
الألوهة والبشرية معية في المخلص بلا انقسام ولا انفصال ولا اختلاط لأن الألوهة لما نزلت إلى مريم حلت بشرا. هذه ليست صيرورة لأن الألوهة لا تصير. انها سكنى. لا تحتمل تهمة الحلولية كما أراد أحد اصدقائي الكبار ان يلصقها بي. قلت له ان الألوهة لا تصير بشرا. تلازم البشرة، تداخلها، تتحد بها والطبيعتان طبيعتان لا تخسر احداهما خصائصها وان تلاقت والخصائص الأخرى. المسيح في الكون وخارج الكون، في المدى الذي كان فيه واللامدى الذي صار اليه بصعوده. هو إله متأنس في جسدانية متألهة.
وهذا كله ينعكس فينا وفق ما تقدر بشريتنا. لهذا قال القديس أثناسيوس الكبير: «تأنس الله ليتأله الانسان». هذا عليه ايضاح كثير في اللاهوت الأرثوذكسي اذ ليس المعني ان تكتسب جوهر الله الخالق ولكن المعنى ان تسهم في قوى من الله الأزلية ونحن نقول بأزلية النعمة.
يكون عندك أو فيك شيء غير مخلوق والا لما استطعت ان ترتفع. لا رفعة لك من ذاتك البشرية ولكن لك رفعة من الوهية سكنتك بصورة غير مدركة.
كل غير هذا القول يعني ان ليس من تلاحم بينك وبين الله وان ربك لم يردم الهوة بين السماء والأرض. كل هذا القول يعني ان الله فوق وانك تحت وانه يحكمك بالكلمة، تلك التي لا يمكن ان تدخلك ما لم تصر حبا اليك. والكلمة لا تصير حبا لمجرد ان الله قالها. وجب ان ينزل الكلمة الذي كان من البدء إلى لحمنا وعظامنا.
ان ارتفاع الرب يسوع إلى السموات سبب تحويلنا اليه فإنه «سيغير جسد تواضعنا ليكون على صورة مجده» (فيليبي 3: 21). لكونه جعلنا بانبعاثه قياميين نستطيع ان نصبح تواقين إلى المجد الذي سنسكنه في اليوم الأخير.