لبنان : منارات جورج خضر: مطران أنسن الله

mjoa Saturday June 2, 2012 168

اختار العروبة حين رأى المسيح لاجئاً فلسطينياً، مُرسياً خطاباً لاهوتياً سياسياً في أوضاع المسيحيين العرب، والقضية الفلسطينية والصهيونية والطائفية والعلمانية. في «جورج خضر أسقف العربية»،  يتناول مفكّرون وباحثون جوانب عدّة من نتاج المطران «الماركسي الهوى»

«يوم الخامس من حزيران 1967، اخترتُ العروبة، لأنّني رأيتُ في هذا اليوم أنّ يسوع الناصري أصبح لاجئاً فلسطينياً»، قال المطران جورج خضر موغلاً في جرحه ـــ جرحنا، محاولاً اجتراح حلول للإنسان العربي المعاصر، تترجّح بين الروحي والعقلاني، وتنطلق من التاريخ وحيّز جغرافي وثقافي يمثّل مطمعاً دائماً. رؤيته للّه والدين هي نافذة مفتوحة على إنسانيّتنا جميعاً. مال المطران المتنوّر إلى أنسنة اللّه وعَقْلَنَته أحياناً ليتألّه الإنسان جزئياً، ولو مثّل اللّه في الأديان السماوية المطلق والعقل الكلّي.

عَقْلَنَة الأديان هي دعوة سامية لبلورة المشترك، للاجتهاد والتأويل والتحرّر من الدغمائية وحرفية النصوص، لتغليب جوهر الأديان على قشورها. هنا تكمن أهمّية جورج خضر الذي يعرف أنّ قيم المسيح تتبدّى في النظرة إلى الآخر والعلاقة به أوّلاً، وأنّ المحبّة في المسيحية لا تستبطن تراخياً أو هشاشة، بل تقترن بالحزم والكرامة الإنسانية. هو الذي جرؤ على القول إنّه «في جانبٍ ما، ماركسيّ الهوى» وإنّ «الشعوب ستتصالح يوماً ما مع الماركسية في ظلّ تعاظم الرأسمالية المتوحّشة».

يمكن التوّاقين إلى معرفة أفكار خضر والأصداء التي ترجّعها في المشهد الثقافي اللبناني قراءة كتاب «جورج خضر أسقف العربية» (منشورات الجامعة الأنطونية ـــ سلسلة «اسم علم»)، حيث تناول مفكّرون وباحثون جوانب عدّة من نتاجه الثقافي والفلسفي والفكري والسياسي واللاهوتي. ببساطة تشفّ عن عمق، عرّف الأب جرمانوس جرمانوس، رئيس «الجامعة الأنطونية»، شخصية المطران الاستثنائيّ، مشدّداً على الرابطة بين «لاهوتيّي الضاد» و«اللاهوت السياقي الذي يعطي لحضور المسيحيين في الشرق دوراً خميرياً».

وأضاء الباحث أنطوان فليفل على أمكنة خضر الأولى التي أثّرت في رؤيته وفكره، وعلى هوية لاهوت المطران الأرثوذكسي، والإشكاليات الراهنة والتاريخية الملحّة في لبنان والعالم العربي التي تطرّق إليها مثل الحوار المسيحي الإسلامي، وكيفية إرساء أسس خطاب لاهوتي سياسي في أوضاع المسيحيين العرب، وخصوصاً القضية الفلسطينية، والعروبة والصهيونية، والطائفية والعلمانية… ذكّر فليفل بأنّ العروبة التي ينادي بها خضر هي عروبة ثقافية arabité، لا عروبة سياسية وأيديولوجية arabisme، وتمثّل «المسكن الوحيد حيث يتمكّن المسلمون والمسيحيون من عيش لقائهم الوجودي والتاريخي». واستعاد تنبيه خضر للمسيحيين إلى عدم الوقوع (مجدّداً) في فخّ التقوقع، وضرورة إدراك انتمائهم الثقافي.

بهذا المعنى، «تمثّل العروبة تحدّياً للمسيحيين المشرقيين، تواجهها أفكار سائدة نقيضة لها»، أبرزها القوميات الطائفية. وهذا من أهمّ ما طرحه خضر الذي أدرك أنّ «القوميات الطائفية تؤيّد الصهيونية التي تعتقد باستحالة التناغم السياسي في الشرق الأوسط بين الجماعات الدينية». عروبة خضر هي إذاً إنسانوية وعقلانية ونقدية وتعدّدية. أمّا العلمانية، فيعدّها حلاً للقضية الفلسطينية، و«تحريراً للوطن من وطأة الطوائف، وتحرّراً للإيمان من دخول السياسة إليه». تناول الأب باسم الراعي موضوع الانتقال محلّياً «من الرومنسية التاريخية إلى الدولة الديموقراطية» التي تعزّز الحرّيات وتجعل التعدّدية غير متناقضة مع وحدة لبنان بحسب خضر. وأشار إلى تمييز المطران بين الدين بوصفه وسيلة لتحقيق غايات تغذّي الطائفية السياسية، والدين على اعتباره «ينبوعاً، وإرثاً للحياة، وهوية خاصة»، ما يستلزم «إعادة توجيه الدين نحو أصله الإلهي بدلاً من تحويله إلى انتماء سوسيولوجي محض».

بغية الوصول إلى هوية وطنية وثقافة مشتركتيْن، لا بدّ من إعادة قراءة التاريخ بعيداً عن «الأدلجة»، و«نقد ذاكرة الطوائف والوطن معاً، لبناء دولة الغد المنبثقة من إرادة المجتمع». وبينما يوضح الراهب ميشال جلخ رؤية خضر للثقافة والمعرفة اللتين لا يمكن أن تستقلا عن الواقع والحكمة، متطرّقاً إلى الحملات الصليبية التي استهدفت المسيحية المشرقية مثلما استهدفت المسلمين، يشير أحمد بيضون إلى جنوح جورج خضر نحو المقارنة بين المسيحية والإسلام لإبراز الاختلاف بينهما على مستوى لاهوت السياسة والدولة، ولإظهار ما يعدّه ضرورة لاستقامة تعارف الديانتين، وصولاً إلى «الجذوة الواحدة» ومسعى السلام عند خضر المنسوب إلى التصوّف. والأهم في دراسة بيضون إدراكه أنّ شروط النهضة (الروحية) التي ينادي بها خضر، ويفتقر إليها العالم العربي، ليست مكتملة بعد.

أمّا بسكال لحود، فقارنت ببراعة بين جورج خضر وعمانوئيل ليفيناس، انطلاقاً من نقدهما لعقلانية الغرب، بينما تأرجحت الشهادات التي كتبها يوسف كمال الحاج، وأمل ديبو، ونداء أبو مراد، وإلهام كلاب، بين سطوة لغة خضر وشخصيّته وحضوره. وعبّر السيّد هاني فحص عن إحساسه «بحضوره (هو) الكثيف والمشرق عندما يكتب خضر نصّه المسيحي»، هكذا «يتحقّق الآخر بتحقُّق الذات». جورج خضر الأديب والمفكّر والأسقف المتفرّد هو رجل وطني تاريخي يضيء الكلمة شمعةً في راهن عربي ملتبس، وعالم يزداد ظلامية وبؤساً وتصدّعاً.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share