التـّكنولوجيا الحديثة إلى أين؟

mjoa Tuesday June 5, 2012 177

تنشأ الأجيال، اليوم، على التّصوّر أنّ التّكنولوجيا الحديثة قمّة إنجاز البشريّة وترقّيها في التّاريخ. هذه بديهيّة العصر! بها يمجِّد الإنسان نفسه ككائن عاقل، وبها تحتشد في صدره مشاعر الانتفاخ حتّى تأليه الذّات!

     لو قُيِّد لنا أن نضع النّتائج البشريّة للتّكنولوجيا الحديثة تحت مجهر العين الدّاخليّة للإنسانيّة الحقّ لاستبانت، لناظرينا، أنّها وراء أحيَل وأخدَع وأفتَك علّة أصابت البشريّة، والوجدان البشريّ، منذ فجر التّاريخ: رضى الإنسان بأن يُشيَّأ! لم يتعرّض الإنسان للتّشويه الكيانيّ، في أيّ وقت من الأوقات، كما يتعرّض اليوم! صادوم ليست بشيء قياسًا بما تُحدثه التّكنولوجيا الحديثة في النّفوس من خلل! إنّه التّشويه العدميّ (Nihilist ) المعمَّم الّذي مآلُه، بعامّة، إفراغ الإنسان من إنسانيّته!

     مبالغة؟! لا أظنّ! دونك الصّورة من الدّاخل إلى الخارج!

     في سِفر التّكوين، بعد سقوط آدم وحوّاء، قيل: “إنّ تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته” (6: 5؛ 8: 21). إذًا قلب الإنسان بات مائلاً، مذ ذاك، تلقاءً، إلى الشّرّ! حتّى ما هو، في الظّاهر، للخير صار يتعاطاه الإنسان، تبعًا لهذه المسلَّمة، متى تُرك الأمر لخياره، على نحو شرّير! بعد السّقوط، لم يعد بإمكان الإنسان أن يصنع الخير، زلالاً، خيرَ نفسه والآخرين، إلاّ إذا فُرض عليه فرضًا. ولكنْ، مَن تراه يقدر أن يفرض ويحكم في ما إذا كان الإنسان يصنع الخير أم الشّرّ؟ طبعًا، الحكم بحسب الظّاهر، حُكْمُ الإنسان، لا ينفع! وحده علاّم القلوب يستطيع أن يفرض وأن يحكم لخير الإنسان لأنّه محبّة! من هنا أهمّيّة القاعدة الكتابيّة: “بدء الحكمة مخافة الله”! ولكنْ إلامَ يحتاج الإنسان لتفعل فيه مخافة الله، ومن ثمّ ليصنع الخير دون مواربة؟ يحتاج إلى أربعة أمور:

     1 ) يحتاج إلى الشّعور العميق بأنّه لا يستطيع أن يقضي حاجاته المعيشيّة من دون الله. إذًا، يحتاج لأن يعي أنّه لا غنى له عن الله!

     2 )  ويحتاج إلى الوصيّة الإلهيّة الّتي تجعله قادرًا على أن يميِّز الخير من الشّرّ.

     3 )  كما يحتاج إلى التّأديب متى استهان بالوصيّة. هذا يجعله يُقلع عن الشّرّ.

     4 )  وأخيرًا يحتاج إلى البَرَكة متى كان أمينًا للوصيّة. هذا يعزِّز فيه صُنع الخير!

     على هذا الأساس كانت الشّريعة الموسويّة! وعلى هذا الأساس، أيضًا، كانت الشّريعة مؤدّبتنا إلى المسيح، على حدّ تعبير الرّسول بولس. في هذا الإطار بالذّات قيل: “إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمرّدتم تؤكلون بالسّيف لأنّ فم الرّبّ تكلّم” (إشعياء 1: 19 – 20)!

     لهذه العمليّة، لتجري بلياقة وترتيب، بمرور الزّمن، إطار. هذا الإطار هو الجماعة. لذا أخذت الجماعة على عاتقها أن تنشئ أبناءها وبناتها، من خلال العائلة، على التزام العهد مع الله. فمَن كان أمينًا لله فيها ساهم في استنزال بركة الله عليها، لسروره وسرور الجماعة؛ ومَن لم يكن أمينًا أدّبته الجماعة اتّقاء غضب الله، لا فقط عليه، بل عليها أوّلاً. لقد كان ممنوعًا على الجماعة، بشكل صارم، أن تستهين بعمل الله. كما كان ممنوعًا على كلّ فرد من أفرادها أن يستهين بدور العائلة في الجماعة، أو أن تتراخى الجماعة في مراقبة ومتابعة ما على كلّ من أفرادها عملُه. على هذا كان سلوك الأفراد مضبوطًا بمسؤوليّة كلّ فرد تجاه العائلة والجماعة. إذًا الرّبّ الإله يضبط الجماعة والجماعة تضبط العائلة والعائلة تضبط أفرادها! وما قصّرت فيه الجماعة حيال أفرادها، عن عجز، لأنّها لا تعرف خفايا الأحداث، كان يكمله العارف بكلّ شيء! من هذا المنطلق كان خوف الأفراد من تأديب الجماعة، ومن تأديب الله، في آن معًا، راسخًا وكفيلاً بوضع الأمور في نصابها!

     بقيت ضوابط الوجدان ثابتة ونافذة، إلى حدّ بعيد، حتّى دخلت البشريّة عصر التّكنولوجيا الحديثة. الظّاهر الآتي بدا أزاهيرَ ووعودًا وإشراقًا، والباطن تفتّق عن زوابع شلّعت أركان إنسان القلب الخفيّ، ما أطاح ثوابت النّفس والعائلة والجماعة والإيمان بالله وشوّه الإنسان تشويهًا كبيرًا!

     على هذا النّحو تكشّفت الصّورة:

     كان الفرد، فيما مضى، مشدودًا إلى العائلة، ومن خلالها إلى الجماعة، ومن خلال الجماعة إلى الله، لأنّه كان بحاجة عميقة إلى مَن ينتمي إليه. الحاجة المادّيّة لعبت، في ذلك، دورًا ليس بقليل. وقد استبان، بعد ذلك، بعدما أخذ الإنسان يذوق طعم ما عملت التّكنولوجيا الحديثة على تحقيقه، أنّ الحاجة المادّيّة لعبت، في علاقة الإنسان بالله والجماعة، دورًا محوريًّا! من دون سند العائلة والجماعة، والله، من خلال هذه وتلك، ما كان بإمكان الإنسان أن يستمرّ في العيش. كان هناك تداخل نسيجيّ بين الإنتماء الإيمانيّ، من ناحية، والإنتماء الاجتماعيّ والعائليّ، من ناحية أخرى. وهذا كلّه ارتبط، عضويًا، بالحاجة المعيشيّة للإنسان. الإيمان والحبّ والفضيلة والشّيم والأخلاق سارت يدًا بيد والرّغيف!

     فلمّا جاءت التّكنولوجيا الحديثة أمّنت للفرد الكثير من حاجاته المعيشيّة بشيء أو بالكثير من اليُسر، ما أدّى، بصورة متنامية، إلى انتفاء حاجته إلى السّند المادّيّ للعائلة والجماعة المنظورة، الّتي ينتمي إليها. على هذا، لو مثّلنا التّكنولوجيا بالآلة، لقلنا إنّ الإنسان انتقلت حاجته إلى الآلة؛ أخذ يستعيض عن العائلة والجماعة بالآلة إلى حدّ ليس بقليل! وإذ لم يعد الفرد بحاجة إلى الدّعم المعيشيّ للعائلة والجماعة، أخذت علاقته الإنسانيّة بهما، ومن ثمّ علاقته الإيمانيّة بالله، في التّضاؤل، وبعد ذلك في التّلاشي، تدريجًا!

     ثمّة انقلاب أخذ يحدث. صار الفرد محور ذاته. صار هو فَلكَ نفسه بامتياز. حاجاتُه الخاصّة، أهواؤه، أفكاره، قناعاته، ملذّاته، رغباته صارت هي الفَلَك! لم تعد العائلة ولا الجماعة المنظورة هي فلكَه. طبعًا، التّعميم هنا متعذّر. لا شكّ أنّ شريحة من النّاس حافظت على قيمها التّراثيّة وتمكّنت من مقاربة التّكنولوجيا الحديثة بتمييز. غير أنّ الحركة الوجدانيّة للإنسان، بعامّة، مالت، بقوّة، مذ ذاك، إلى الفردانيّة المتطرِّفة. المثال صار الإنسان الجزيرة في داخله! هذا صار مِثال الحرّيّة! تحوّل المجتمع إلى فرد وجماهير! الفرد يحكمه اعتدادُه بنفسه، والجماهير يحكمها الإعلام.

     وكما جعلت الآلةُ الفردَ يستغني، تدريجًا، عن السّند المادّيّ للعائلة والجماعة، جعلته يستغني عن الدّفء الإنسانيّ في كنفهما. كان المرء، في السّابق، يتسلّى ويتعزّى بالآخرين، فلمّا دخلت الآلة، في الصّورة، صارت هي تسليته وتعزيته! لقاء النّاس بالنّاس أضحى ثقيلاً! لم يعد إطارًا للفرح والبنيان. صُنِّف هذا اللّقاء، بعامّة، في فئة “الواجبات” الشّكليّة! طغى على اجتماع النّاس طابع المصلحة الشّخصيّة. تحوّلَ، في أحسن الحالات، إلى مجال للأنانيّات المشتركة! ما أَخذتْ تفتك به الذّهنيّةُ الجديدة، بخاصّة، هو المحبّة! في هكذا مناخ، لم يعد ثمّة مجال للمودّات الأصيلة! كلٌّ صار لنفسه! يطلب ما لنفسه! لا إحساس، بعدُ، بالآخرين قاعديًّا! لا شركة قلبيّة في الآلام والأفراح! لا مبالاة! لا بذل! لا عطاء حقّ! لا تضحية! تصحّرت القلوب! طبعًا لم يخلُ الإنسان من العواطف، لكنّها أضحت عواطف تطلع على الصّخر، من قلوب متحجِّرة، ولا تلبث أن تيبس! في العمق برودة جليديّة وتسطيح للعلاقات مزيّنة بأزاهيرِ الكلامِ المَلِق والابتسامات المجوَفّة واللّياقات المخادعة!

     وعن جفاف المحبّة في القلوب نجم انهيارٌ في الزّواج والعائلة. صار الزّواج شكليًّا، استهلاكيًّا، واهي الرّباط. لا أيسر، بعد، من الطّلاق! لم يعد أفراد العائلة كلٌّ إلى الآخرين. أمسى لكلّ واحد عالمُه وخصوصيّاتُه وقناعاتُه ورأيه! بات النّموذجُ تأمينَ المناخ البيتيّ الّذي يوفّر لكلّ فرد في العائلة جوَّ حرّيّته الخاصّة به! عمليًّا أخذت العائلة تنفرط، ومع العائلة الجماعة المنظورة (رعيّة، قرية الخ…). القيم الّتي عاش عليها النّاس مئات السّنوات لم تعد لها قيمة! صارت متحفيّة فولكلوريّة. موضة قديمة! تراث الكنيسة، في هذا السّياق، بات يوسَم بالجمود والتّخلّف! عقائد الكنيسة أَخذ يُنظر إليها ككلام فارغ من المضمون! الحياة في المسيح لم تعد واقعيّة! كنيسةُ الرّوح أخذ يُستعاض عنها بكنيسة دهريّة نفسانيّة همُّها الشّكل لا المضمون، قائمة على حداثة تناسب العصر، وتخاطب، بالأَولى، العقل والعِلم والتّكنولوجيا والأهواء لدى الإنسان المعاصر!

     وعلى سيرة العقل، فَرضت التّكنولوجيا الحديثة مقاربة عقليّة لله. ألقى العقلُ بظلال الشّكّ على كلّ ما يُدعى “إلهًا”! وبات العقلانيّون يتعاطون الله كفكرة، كنظريّة! صار الله موضوعًا، موضوع بحث. وصارت قيمةُ الكنسيّات تُحدَّد، بخاصّة، وفق معايير العِلم والتّاريخ. ولِمَن ليس على باعٍ في العِلم، على أساس المشاعر الاستهلاكيّة التّقويّة! الله، عمليًّا، قُتل! الكلام على روح الرّبّ والنّعمة والبَرَكة والتّوبة والعفّة والصّلاة لم يعد في التّداول!

     بارتداد الإنسان، على هذا النّحو، عن الله، ومن ثمّ، بذبول حياة الفضيلة، والبرودة المحبّيّة لديه، طرأ على نظرة الإنسان إلى نفسه تغيُّر كبير. لم يعد الجسد هيكلاً لروح الله، أو لغةً للمحبّة، أو مطرحًا للتّجلّيّ الإنسانيّ البهيّ؛ صار لحمًا وواقعًا بلاستيكيًّا وسِلعةً! إذًا برسم الاستهلاك ككلّ شيء آخر في عالم الاستهلاك! إذًا تشيَّأ! بات آلة عضويّة! إذًا تشتريه وتبيعه! أحيانًا بالمال، وأحيانًا بالغوى والمتعة! بلا شعور بالّذنب! بلا عقد، يقولون! جسدي لي، أنا حرّ به! “ويح لي! لقد صار جسدي لحماً!” صرخ كاتب التّريودي! إنّها صادوم المطوَّرة والمعقلنة ألف مرّة!

     وطبعًا، مالت النّفس إلى طلب الرّاحة والتّرف واللّذّة واللاّمبالاة، في المناخ الجديد! النّتيجة قلق، خوف، ألم، فراغ! كان الإنسان، فيما مضى، يعرق ويتعب، فكان طعم الخبز لذيذًا. رتعت نفسُه الآن في طلب الرّاحة فلم يعد لشيء لديه طعمٌ! بالرّضى كان القليل كافيًا؛ وبالنّهم والجشع لم يعد شيء كافيًا! ولأن الإنسان، في نهاية المطاف، قلبٌ، صارت شيمته، في المناخ العدميّ الجديد، الهرب! بالأدوية المهدِّئة، بالمخدّرات، بالمسكرات، بالإثارات، بالتّفنّن بأسلوب استهلاك النّفوس والأبدان، بالانفعاليّة المفرطة، بالغضبيّة الحادّة، بالألعاب! داوني بالّتي كانت هي الدّاء!

     من حيث لا يدري صار الإنسان، في شيئيّته، يطلب لا الحياة في مسار الموت، بل الموت في مسار الحياة! شغفُه بالآلة جعله، على مثال الآلة، آلة! إلهيّات آليّة! إنسانيّات آليّة! مجتمعات آليّة! مثاليّات آليّة! عقليّة آليّة!

     لم يعد العالم بحاجة إلى إنسان، على ما في ذلك من جدليّة! صار الإنسان مشاغِبًا! الآلة لديه خير منه! أكثر أمانة منه! إذًا العالم المرتجى للتّكنولوجيا الحديثة عالمٌ لا بدّ أن تحكمه الآلة! لا يؤتمنُ، بعد، جانبُ المشاعر الإنسانيّة! لا بدّ، إذًا، من ضبط سلوك الإنسان بالآلة! لا بدّ من خلق(!) إنسان جديد من الرّكام! من خواء الخطيئة إلى الإنسان المِسخ! لا مفرّ من العبوديّة الجديدة! العبد والآلة، في القاموس القديم، واحد! لا سلام، بعدُ، يُلتمس بالإنسان! منطق جديد يبرز في الأفق: لكي تحفظ الإنسان، كما يتمثّل في ذهن “المُخرِج” القابع وراء السّتار، عليك أن تتخلّص ما قدرت من الإنسان كما هو! إذًا تتخلّص من الإنسان جملة وتفصيلاً! إذ ذاك يصير للعالم سكون… هناك، هناك، في مساكن القبور!!!

     ويُسدَل السّتار عن قهقهات في الخارج!… إلى أن يَفِدَ مَن سيمسح كلّ دمعة عن العيون، والموتُ لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأنّ الأمور الأولى قد مضت… والآتي يصنع كلّ شيء جديدًا (رؤيا 21: 4 – 5)!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share