المرأة ليست متسمة بالأنوثة فقط. انها متجهة الى الأمومة أيضاً. الكيانية الأنثوية لا تبدو لي واردة في سفر التكوين الا اذا رأيناها مندرجة في الوحدة الزوجية التي عبر عنها آدم عند ظهور حواء بقوله: «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي» (2: 23). أما الأمومة فواضحة في قول الله للمرأة: «بالوجع تلدين اولادًا» (3: 16). هذا قيل بعد السقوط. توا بعد هذا يقول: «والى رجلك يكون اشتياقك». هل هذا متعلق بطبيعة الأنثى؟ الفكر العبري لا يتحدث في جوهر الأشياء ولكن في حركيتها. يبقى ان سفر التكوين يتحدث عن الرجل والمرأة معا أي عن الزوجية كما يتحدث عن المرأة مع اولادها. اذ ذاك نحن في صميم الأمومة.
لن أغوص على التحليل النفسي. الغوص الذي ادخله فرويد على العلم لقلة معرفتي به ولكني أبسط للقارئ تأملات في بساطتها. سمعت غير مرة غسان تويني يستعمل للدلالة على أي انسان عبارة «ابن امرأة» فأخذت اتأملها. لماذا هذا الوصل بين كل منا وامه بإقصاء الوصل بأبيه؟
في الكتاب كلمة عن الأم مذهلة ليس ما يوازيها في الكلام عن الرجل وهي قول الرب انها «ستخلص بولادة الأولاد ان ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل» (1 تيموثاوس 2: 25). هذا ليس «تقديسا» للولادة. انه تقديس للتربية. هذا غير الحديث عن الزوجية التي فيها كلام كثير ومرتبط بالقداسة. انه حديث ليس عن وضع الزوجية ولكن عن الأمومة المتصلة بالربوبية هدفا للأولاد.
يجري حديث العامة دائما عن عاطفة الوالدة. هنا ينبغي التدقيق والقول ان هذه العاطفة مرتبطة مباشرة بأن الولد كان طوال تسعة اشهر محضون امه. هناك وظائف كالتنفس بالرئتين ليست عنده وهو في حشا امه أي انه، بصورة ما، جزء منها لكونه لصيقا بها ولا يأخذ استقلاله الا اذا خرج منها أو ادرك فطامه. تبعيته لها في الظاهر الجسدي تتحقق بقطع حبل السرة وبالفطام.
هنا يدخل العنصر السيكولوجي. بعد انفصاله عنها ماذا يبقى منها فيه على صعيد النفس؟ ما العقد التي ورثها؟ ما قرباه وما بُعده؟ هذه اشياء تصدى لها علماء النفس من بعد فرويد لكن العامة في خبرة اجيال تعرف الكثير منها.
غير ان الأم ليست معقدة. تعاني من اخلاقها هي التي تؤثر في تربيتها. من الأمومة لا ترث الا الانعطاف الناتج من الحضن الرحمي. وفي الحديث الشريف – انقل من الذاكرة – أطلق الله اسم رحمته على رحم المرأة.
***
مهما يكن من أمر الاشتقاق يبدو من الوجهة السيكولوجية ان الوالدة لا تقبل قطع حبل السرة ولا الفطام فتحس ان وليدها تابع لها أو هي مسؤولة عن الاشراف عليه طوال حياته. تعنى به مهما بلغ من العمر كما كانت تعنى به لما كان طفلا.
ما وددت قوله ان الأم مندفعة بهذا الشعور تأسيسا على تركيبها الجسدي أو تأثرا به ومما يقوي الشعور حملها الطفل على ذراعيها أو في حضنها. القضية فيها شيء من اللصوق. شعور الأب مرتبط أيضاً بكونه حمل ولده على ذراعيه. هي قضية لصوق هنا أيضاً يختلط بها استقواء الوالد بارتباطه بالذرية. شعور الأم فرادته انه مدعوم بأساس جسدي.
ربما قويت عاطفة الأم بكونها راعية (تطعم الولد، تهتم بكسائه، بنومه). هي ربة البيت. في العربية يسكن الولد الى أمه أي يجد عندها السكينة والدفء. بكلام آخر يجد الولد عندها الحضور.
تحمل الحياة بمعناها الشامل ومن هذا التقوى. هي مميزة بنقلها الإيمان الى اولادها وأحفادها وهذا لوحظ في القرن العشرين في الأنظمة الملحدة التي أغلقت الكنائس. كان الايمان ينقل من الجدات الى الأحفاد لأن الجدة كانت لا تخشى دوائر الاستخبارات. ولعل الجدين معا يقدمان عطفا للأحفاد لشعورهما باستمرار الحياة فيهم.
تقديس الانسان لأمه قوي في هذه البلاد بحيث لا يحتمل أحد ان تشتم امه لإيمانه بطهارتها، هذه الهالة بادية بسبب ما أخذ الولد من والدته من عطف شديد يتسم بطابع القداسة.
على ذلك كله ما أردت ان أقول ان هذا الذي يبدو فضيلة في الأم ليس ناتجا حصرا من تركيبتها الجسدية، فالأمهات لسن متساويات في العطاء الروحي يوزعنه مما نزل عليهن من فوق. فهناك نساء مهملات، غائبات، قليلات الحكمة، غير مؤهلات للتمييز بين اولادهن ما يؤثر على نمو الاولاد تأثيرا كبيرا. غير ان الولد الحكيم يرعى امه وما كان عندها رعاية قادرة. في الحقيقة ان العائلة دائرة كل منا فيها يستلم ويعطي في كل الجهات.
طوبى للتي تستطيع ان تصبح على صورة مريم عظيمة العطاء. هذا لا يعني انه ليس للأم الا وظيفة الأم. انها كائن بشري كامل «يعمل ويعلّم»، قادر على الإبداع في كل مجال من مجالات المعرفة والتضحية. وبهذا تعظم امومتها. هي انسان كامل الانسانية مبذول في كل محبة أفي البيت كانت ام خارج البيت. مثل الرجل تعطي الخيرات لمن كان فقيرا اليها. هذه الانسانية الكاملة متوافرة عند التي لم ترزق ولدا أو عند التي تبتلت لله. هناك قوة عطاء عندنا جميعا. الوالدة ايقونة من ايقونات العطاء.