حرّكتني الجملة الأخيرة من مقال أنسي الحاج الرائع في عدد السبت الماضي في جريدة “الأخبار” اذ يقول “سلام على الأطفال يوم ولدوا ويوم يموتون ويوم يبعثون أحياء في عالم لا يقتل الأطفال”. لماذا يهتز كل كياننا عند قمع الأطفال؟ أظن ان الجواب العميق هو لكونهم لا يملكون أدنى مقاومة للبالغين وان هؤلاء في حال تعذيبهم الصغار أو قتلهم انما يخلون من كل انسانية. اذا فعلوا هذا يكونون قد صاروا اسوأ من الوحش لأن الوحش لا يفترس وحشا من جنسه. هم في ذلك خارج المعقولية.
في الكنيسة عيد الأطفال الذين أبادهم هيرودس اذ كان سيقتل المسيح مع الجمهور. كل صغير آنذاك، حمل الطفولة التي كان عليها يسوع الناصري. كل صغير يحمل فجر الوجود. والفجر تمتمة النور لنفسه. جمال الفجر ان فيه طيب الانتظار.
دائما سألني الغربيون لماذا شعبكم يأكل الثمار على فجاجتها. نوع من الشراهة قد يعني اننا نحب الاشياء قبل نضجها. عند الأجانب بلوغ الفواكه نضجها هو أعلى مستوى فيها. هذا كسب وليس بالضرورة المعيار.
ألف الإنسان فكرة النمو اذ يولد وينمو وكأن الولادة بدء الوجود والموت آخره. هل حقيقة الانسان الجسدي اطوار ام هي حالات مختلفة تلعب فيها النفس دورا كبيرا. واذا كانت رؤيتنا صحيحة تكون الطفولة نعمة وجود لها كمالها بذاتها ولو كان فيها تهيؤ بحيث ساغ القول ان الطفل ليس رجلا (أو امرأة) صغيرا كتبت عليه قفزات تبلغ به الكمال. انه في الحقيقة كامل وليست الكهولة أو الشيخوخة كماله. كل سن تحمل اكتمالها في ذاتها. لذلك كان للولد لغته وللراشد لغته. وللصغير منطق وللكبير منطق وعليك ان تقرأ اذا استطعت والنفس تدخل النفس وان كانت ذات مقاييس مختلفة. الحب وحده العمق. لذلك امكن الولد ان يكون قديسا في اواخر الطفولة وهي تنتهي في تصنيف العلماء عند الثانية عشرة.
***
ذاتية الطفولة لا تعني انها منقطعة عما ورثته. فالكثير فينا ميراث فتجد طفلاً اسمر وأخاه اشقر لأن احدهما ورث عن والد من والديه والاخر عن جده أو جد جدّه. هذه مسائل لا قاعدة لها اذ ليس في الطبيعة منطق صارم. نحن نتقبل الأسلاف ونبني على ما اتخذناه منهم. التربية امر ضخم وحركتها فينا سر ولا تعرف شيئا عن مستقبل الاولاد اي لا تعرف كيف سيتصرفون أو دوافع النفس عندهم وبخاصة لا تعرف النعمة التي تنزل عليهم وكيف يتقبلونها أو كيف يرفضونها. نحن في رعاية الله الذي يعرف وحده سر عمله في العقول والأمزجة. انت، طفلاً، مسيرتك كلها في استجابتك لعطاء الله أو تمنعك عن افتقاده. هناك من يقرأ محبته وهناك من لا يقرأ الى ان يكسر هو الحواجز ويقر في الروح كما يشاء ويكمل القداسة في من شاء.
***
الله معطى للجنين في مقدار. هذا امر خفي ومستور عنّا. وعند تشكّل الجنين في لحظة تشكّله يحمل اساس كل عمره وتلتصق به التغييرات في ما بعد. تبقى المواهب أو لا تبقى فاعلة اذا مرت الأيام. هذا ايضا تحجبه الأسرار. لكن الهيكلية العقلية والعاطفية تتكوّن في حشا الأم فيصح القول ان أفلاطون تصورت شخصيته منذ البدء كما آلت اليه من بعد والذين يسبرون غور النفوس في ايامها أو اشهرها الأولى يعرفون كيف تتفتق المواهب وتنشئ البالغين.
حدسي – هو مجرد حدس – ان الشعراء لما كانوا أجنة انما أعدهم تكوين ما للشعر وان العلماء مدعوون عند خلقهم ان يصيروا كذلك. لذلك كان عليك ان ترافق طفلك وفق عطاياه ليعطي من حوله في ما بعد ما أعدّه الله له.
هناك أطفال أدهشوني جداً. جيء اليّ بطفلة عمرها ثماني سنين مع أبيها ودهشت دهشاً كبيرا لما سمعتها تجيب عن أصعب أسئلتي في شتى حقول المعرفة. يزيّن لي ان اباها رباها على معارف دقيقة جدا ولكن هذا لا يفسّر كل العمق التي كانت عليه.
في مثل هذه القوة كان موزار لما اخذ في الخامسة من عمره ليقدم حفلة موسيقية (Concert) في باريس في حضرة الملك والبلاط. والموسيقى الكلاسيكية من اصعب الفنون. في ايماني اقول ان الله كان دخيل هذه الموهبة.
كل الأطفال في كل بلدان العالم تأتيك بنماذج كهذه. كلمة “ولد استثنائي” لا تكفي تفسيراً. طرحي ان الطفولة عالم كامل يتمتع بمواهب خاصة محجوبة على كثيرين منهم ولكنها مكشوفة لبعض.
هنا يحضرني ما جاء في انجيل لوقا عن حادثة فقدان يسوع في اورشليم لما بلغ الثانية عشرة من عمره. لما وجده يوسف ومريم في الهيكل شاهداه في وسط المعلّمين يسمعهم ويسألهم “وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته”.
هذا طبعا فيه لاهوت كثير. وهذا قادر عليه بعض الأطفال الذين بلغوا نهاية الطفولة أو قبلها.
واذا انت علمت بهذا ينبغي ان تفهم مسؤوليتك الكبرى تجاه اولادك الصغار حتى تكون بلا عيب أمامهم اذ ويل لك ان اعثرتهم أو ضربتهم أو شتمتهم أو جعلت بيتك مليئا بالصراخ وبذاءة الكلام.
اعلم ان أولادك يصلون الى الله بك. هذا هو الذي يرثونه وهذا هو الذي يبقى فيهم. كيف تجمع بين اللطف والحزم والحب الزوجي النقي هذه معرفة ينبغي ان تجهد لاقتنائها. اعلم تاليا ان الطفل مقدس وجمال وجهه ليس هاماً عند الله.
طلع الفجر. لك فيه طيب قبل سطوع النهار. افهم انك مؤتمن على طهارة اولادك واتساع ادراكهم ليكون لك في عطائك هذا بنيان روحي لك لتهيئ لنفسك شيخوخة يلقاها الله فيك عافية حلوة.
المطران جورج خضر