يا أحبة،
السؤال مشروع: لماذا هذا التحرك إذا جازت التسمية حول المطران بولس ؟؟
والجواب بكلمـات لأن ما جسّده في حياتـه، الذي سآتي على ذكر القليل منه لاحقاً، جعلــه أكبر من قامـة إيمانيـة استثنائيـة. جعلـه قضيّـة كنسية بامتيـاز.
هو قضيّــة لسببين، بسبب كثافـة الرسائل المُعلّمة التي وجّهـهـا لنا بحياتــه معنا على الأرض، وبسبب حاجـة حياتنا الكنسيـة اليوم، أكثر من أيّ يوم مضى، الى أن تُحفر في حيـاة رجالها سير قداسة كسيرة المطران بولس.
ولعلّه هو الوقت والمناسبة للتوضيح أن أحداً منـا لا يهدف من هذه الحركة حول المطران بولس الى الضغط والتركيز على إعلان قداسة هذا الرجل أبداً. فنحن،على ضعفاتنا، أبناء كنيسة ونعرف أن هذا الموضوع يتطلّب وقته ومقتضياته وآلياتـه، ويتطلّب أولاً وأساساً مقاربته بشكل بعيد عن أيّ منحى شخصي وعاطفي وما إلى ذاك. لكن، ولأننا أبناء كنيسة، نعلم أيضاً أن في واقع حياتنا الكنسية اليوم ما يسهّل عليـها كثيراً أن تنسى سير القداسة كسيرة المطران بولس وغيره ممن شابهه، وتدفن هذه السير والمفاهيم الانجيليـة التي عاشت بها لتصدّر مكانها سير أكثر غربـة عن هذه المفاهيم وأقرب بكثير الى مفاهيـم الدنيا والناس.
الدليل الأوضح على هذا الأمر، وهو حقيقـة ثابتة يجب أن تقال، أن نهج المطران وتصرفاته وأساليبه لم تكن مقبولـة أو مهضومـة من شريحـة واسعة من رجال الكنيسة وشعب الكنيسة، ولم تنجـو تصرفاته وأساليبه (غير المفهومة في نظر الكثيرين) يومـاً من الانتقاد والاستغراب، هذا لسبب أنّه عاش، عامة، بمفاهيم الله ومنظار الله ورؤية الله وكلمة الله التي كشفها لنا بيسوع المسيح، في حيـن أن معظمنا لا يزال بعيد أو غريب عنها.
لهذا رغم الاحترام الكبير الذي كان للمطران بولس في ضمائر المؤمنين إلا أن خصوصية حضوره بيننا وقيمته الايمانيـة الثمينة لم تبرز لنـا إلا بعد انتقالـه وشعورنـا بفراغ كبير في حياتنا الكنسية على هذا الصعيد.
سأحاول إبراز هذه الخصوصية باختصار كثير وبشكل لا أكّرر فيـه ما ستسمعونه في الفيلـم.
أولاً، لم يتعامل المطران بولس مع الايمان بيسوع المسيح كحالـة فوقيـة خارجة عن وجوه حياته يتطلّب الوصول اليها الكثير من الجهاد والتعب والتخلّي وما إلى ذلك. هو، ببساطة، عشق يسوع المسيح وأحبّه حتّى لبسه وصار هو سرّ راحته وفرحه واطمئنانه وسلامه وما إلى ذلك ولم يعد يرتاح الى غيـره. هذا ما يفسّر لنا ما كنّا نستغربـه عن حجم الجهد والتعب اليومي الذي يكاد سيكون لا انسانيّ.
ثانياً، لم ير المطران بولس ولم يعلّم ولم يعش أيّ تناقض بين حبّه ليسوع المسيح وايمانه به والعيش بمقتضى انجيلـه وبين عيشه وجوه الحياة في العالم. كان يأكل ويشرب ويفرح ويحزن ويولي العلاقات الانسانية أهميّة كبيرة ويدرس ويعلّم ويحث على العلم ويشجّع عليه ويخدم الناس لتسهيل اكتسابهم له. مـا فعلـه أنّه أكسب وجوه الحيـاة في العالم ركائز جديدة وأثبت بشكل لا يقبل الشكّ أنّ:
ليس بالضرورة أن يكون سرّ الفرح والسعادة هو المال والرخاء،
وليس بالضرورة أن يكون سرّ الراحـة هو الفراغ واللهو،
وليس بالضرورة أن يكون سرّ قيمتك الانسانية وموقعك في العالم هو علاقاتك الاجتماعية مع الأغنياء والنافذين والمظاهر الخارجية المحيطة بك من لباس وأماكن سكن وغيره،
فأنت يمكنك أن تكون في العالم، وليس بالضرورة خارجه، في كامل فرحك وسعادتك وراحتك وقيمتك الانسانيـة بنظرة العالم نفسه، دون أن تتخلّى عن ثباتك في يسوع المسيح.
ثالثاً، أثبت في حياته أن لا شيء مستحيل مع يسوع المسيح وأنك قادر على أن تقول لهذا الجبل انتقل. لم تطأ قدماه أرضاً إلا وقلبتهـا وغرست فيهـا واحات ليسوع المسيح وكنيسته. الميناء شاهدة، معظم قرى وبلدات الكورة شاهدة، دمشق شاهدة، كلّ قرى ومدن عكار شاهدة.
لقد تسلّم عكـار منطقـة قاحلـة مقفلـة إيمانياً وكنسياً على صعيديّ الحجر والبشر تعج بالشيع والبدع والاقتناص، سلّمهـا منطقة تعج بالحيوية الايمانية للشباب وبالمؤسسات الكنسية الفاعلـة والشاهدة والناجحـة، في حين أنّه ليس اكثر المطارنة فقراً وحسب، بل أكثر الناس فقراً، وسلّمها، وهي أكبر الأبرشيات، المنطقة التي عرفت كلّ بيوت المؤمنين فيهـا المطران مؤاسياً ومعزيا ومبلسماً جراح.
رابعاً، كيف يربّي الانسان على الايمان بيسوع المسيح بالمحبّة والحريّة
لم يقدّم يسوع المسيح الى أحد كناموس وشريعـة وقوانين، قدّمه دائمـا كفعل محبـة وطريق خلاص يقتضي سلوكها بكامل حرية الانسان وباحترام كبير لهذه الحريـة.
خامساً، علّمنـا فعلاً كيف ينقص الانسان ليزيـد المسيح
أينما حلّ كان يسوع المسيح أمامه متصدراً أمامه في كلّ خطوة وعمل وتوجّه . فرغم قامته الايمانية الكبيرة وتأثيره الكبير في حياة الاشخاص وتلمذتـه لألاف المؤمنيـن لم يسمح لنفسه أن يكون لـه فسحة ضيقة في ضمير أحد من تلاميذه تأخذ من الفسحات المفروض أن تكون للمسيح. هو من الآبـاء الروحيين القلائل الذين لا يعرف الناس معظم تلاميذهم لأنّه ربّى على الرشد الروحي.
سادساً، علمّنا حقيقة كيف يكون الفقراء والبسطاء سادة لفي الكنيسة بكل معنى الكلمـة. كان لهم الأولويـة وكانوا الأساس حيثما برزوا في حياته وأمامه. لم يعطهم من الفضلات أو مما تبقّى، ولم يتأفّف من فقيـر. كان يحجب عن نفسه وعن الكلّ لتكون لهم العزّة، وكان يرافقهم بشخصه الى حيث يحتاجون خدمـة ليعلّم ويقول للناس أن كرامتهم من كرامته هو الأسقف وبالتالي من كرامة المسيح.
المطران بولس بندلي أنعم الله علينـا أن نعاصر بمعاصرتـه معمدان عصرنا ورسول عصرنـا ورحوم عصرنـا. سنُبقي سيرته حاضرة في ضمائرنا وضمائر أجيالنا حتى نصل أن نعيش وتعيش كنيستنا بنور الله وكلمته. والسلام.