أرثوذكسيّة أم أضغاث أحلام؟

الأب جورج مسّوح Tuesday July 31, 2012 269

ينتاب بعض الأرثوذكس الأنطاكيّين أحلام يقظة يغلب عليها الاسترسال في الخيال والغربة عن الواقع المحيط. وأحلام اليقظة هذه تنأى بأصحابها عن مواجهة الواقع، وترميهم في أحضان وهم متخيّل يُشبع رغباتهم الدفينة التي لم يستطيعوا إشباعها في الحياة الواقعيّة. هم يهربون من واقعهم بحثًا عن فردوس مفقود لا يمكن تحقيقه، يبحثون عن فردوس وهميّ. لكنّ أحلامهم تبقى مجموعة من الصور والأفكار غير المتناسقة والتي تعكس جملة أعراض وعقد ومشكلات نفسيّة.

هؤلاء أضلّتهم الأحلام، فجعلتهم يبحثون عن دور لا جدوى منه ولا طائل. يلاحقون سرابًا مغريًا وخادعًا، كمَن ضربته الشمس على رأسه، ويسعون إلى النهل منه، لكنّهم لن ينالوا منه سوى الفشل الذريع. سراب المجد الباطل وإغراء السلطة وغواية المال هي ما يسعون إليه تحت عنوان كنسيّ شريف وجذّاب. الشيطان يتسربل بثياب من نور، أليس هذا ما يقوله الرسول بولس؟

ثمّة مَن يحلم باستعادة مجد الإمبراطوريّة البيزنطيّة وعاصمتها القسطنطينيّة ودليل ذلك رفعهم راية الدولة البيزنطيّة شعارًا لهم، كأنّ إيمان الأرثوذكس لا يصحّ من دون العـودة إلى الإمبرطـوريّة التي لم يكن أداؤها أفضل من “ممالك هذا العالم”. فكم من المجازر والجرائم والاحتلالات ارتُكبت باسم المسيحيّة؟ وكم اصطدم آباء الكنيسة، وعلى رأسهم القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان والقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم وسواهما، بالأباطرة لغلوّهم في ممارسة سلطتهم وإغفالهم تعاليم الإنجيل.

الخبرة الأنطاكيّة مع الدولة تختلف عن الخبرة البيزنطيّة والروسيّة فيما بعد. الكنيسة الأنطاكيّة لم تكن يومًا حاكمةً في بلادنا، والحمد للَّه. لم تتلطّخ الكنيسة الأنطاكيّة بدنس هذا العالم وجبابرته وطغاته. لم تسعَ يومًا إلى سوى التزام أوطانها وشعوبها، والعمل من أجل تحقيق الملكوت في “الآن وهنا” حيث تحيا، في انتظار اعلان الملكوت الآتي. لم تسعَ إلى سوى الشهادة لمعلّمها وسيّدها وفاديها بالقول وبالفـكر وبالفعـل. لـم تنكـر صليبـها، فحملـته لتُصلب عليه حبًّا، لا لتصلب الناس بغضًا في سبيل مجدها الأرضيّ.

أدركت الكنيسة الأرثوذكسيّة أنّ القداسة ليست للأرض أو للمدن أو للأماكن، فهذه كلّها ليست سوى تراب، بل القداسة هدف أسمى يُدعى إلى حيازتها البشر الذين من لحم ودمّ. “لا في هذا الجبل ولا في في أورشليم تسجدون فيها للآب… الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالروح والحقّ”، قال الربّ جازمًا للمرأة السامريّة. فحيث تكون الكنيسة (أي الجماعة المؤمنة المدعوّة منه) هناك يكون الربّ في وسطها. اليهوديّة لم تدرك هذا الكلام، وظلّت تعمل للعودة إلى فلسطين، وكان ثمن عودتها تشريد شعب كامل عن أرضه بعد حروب ونزاعات ومجازر ذهب ضحيّتها مئات الآلاف. فكم هو ثمن العودة إلى القسطنطينيّة، إذا ما توافرت الوسائل والأدوات؟ كم يقدّر هؤلاء ثمن استعادتهم أمجاد إمبراطوريّتهم؟

هذه الأحلام الأوهام، التي تتّخذ شكل تجمّعات وهيئات وأحزاب، تبحث عن “أندلس” ضاع ولن يعود. هي أضغاث أحلام في عزّ الظهيرة حيث يسيطر الكسل كالنعاس على النفوس الضعيفة، “نجّنا يا ربّ من شيطان نصف النهار”. فبدلاً من أن يعمل الأرثوذكس على ترسيخ وجودهم وحضورهم في بيروت وطرابلس وعكّار ودمشق وحمص وحلب وحماه… وبدلاً من السعي الحثيث للعودة إلى قرى التهجير في الجبل القريب من بيروت، وبدلاً من أن يعملوا على إيقاف الهجرة إلى بلاد الرخاء الاقتصاديّ، تراهم يلتهون بأضغاث أحلام لا تغني عن جوع.

واللافت للاستهجان أنّ أصحاب الخيالات لا يتوانون عن استعمال أسماء مقدّسة يسبغونها على أنفسهم، ولا سيّما كلمة “أرثوذكسيّة” ومشتقّاتها، ويسوّقونها في بازار الطائفيّة البغيضة المهيمنة على النفوس والعقول في لبنان. فثمّة حزب للَّه، وحزب يستولي على الصليب، وحزب يزعم التحدّث باسم المسيحيّين، وأحزاب ذات تسمية إسلاميّة… والآن أتى دور بعض الأرثوذكس ليحوّلوا كنيسة الربّ التي افتداها بدمه إلى حزب طائفيّ. الأرثوذكسيّة أرفع شأنًا بكثير من أن يحرّفها ويزوّر تاريخها بضعة من الأشخاص الباحثين عن دور على حسـاب تـراث حـيّ يعبق بالشهادة الحقّ للمسيح الإله الفادي.

 

مجلة النور، العدد الخامس 2012، ص 226-227

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share