… فصار كلامك في فمي عسلاً!

mjoa Wednesday August 1, 2012 147

لا يحبّ الإنسان أكثر أو أقلّ. يحبّ أو لا يحبّ بالمرّة. الحبّ كلٌّ لا يتجزّأ، لذا هو فوق القياس. ثمّة خلل أصاب قلب الإنسان، لم يكن منه براء، في وقت من الأوقات، في تاريخ البشريّة. هذا يُعرف بالسّقوط!  بنتيجته لم يعد الإنسان قادرًا على أن يحبّ. دخل في عقم. فقط بقيت آثار وأطلال. مشاعر وعواطف وأحاسيس. في مستوى النّفس والجسد معًا. صارت هذه تُعتَبر الحبّ إيّاه، طبيعيًّا. حركةُ نفسٍ مرفَقةٌ بمبادرة جسد. بعامّة، ردُّ فعل على ما يطلع من هنا أو من هناك ويثير ويحرِّك. وما الحبّ ردّ فعل. في البدء، بدء الخليقة، وقبل البدء، كان الحبّ في الله. وقال الله المحبّة: ليكن خَلْقٌ، فكانت الخليقة وانوجد كلّ شيء. إذًا الكلّ أتى ويأتي من حبّ؛ والحبّ إشعاعُ كيانٍ نورانيّ هو.

     انضرب كيان الإنسان. شمسُه الدّاخليّة انطفأت. الحبّ فيه مات. مذ ذاك عُرفت الخطيئة وبالخطيئة دخل الموت إلى حياة الإنسان. لذا قال المصطفى بولس، في رسالته إلى أهل رومية: “كأنّما بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع النّاس، إذ أخطأ الجميع” (رومية 5: 12). الخطيئة مؤشِّر خلل في الكيان. لذا ثمّة خطيئة واحدة، ظلمةٌ كيانيّة واحدة انحجابٌ كامل للحبّ، منه تخرج كلُّ خطيئة وإيّاها تعزّز. الخطايا مِن قعود الإنسان ورسوخه في الخطيئة. كلّ ما هو من الظّلمة ظلمة، وكلّ ما هو من النّور نور. لذا يطرحُ الحبُّ الخطيئة إلى خارج، ويبدِّدها، كما يستحيل الحبّ بالخطيئة. مَحَلَّ الحبّ أحلّت الخطيئة الزّنى في هيئة الحبّ. “جيل شرّير فاسق…” (متّى 12: 39). لا لأنّ فلانًا أو فلانًا شرّير فاسق، دون سواه، بل لأنّ “تصوّر أفكار قلب الإنسان بات شرّيرًا كلّ يوم” (تكوين 6: 5)، قلب كلّ إنسان. “الجميع خطئوا…”.

     آدم خارجَ الفردوس يبكي عصير قلبه، لا لأنّه طُرد منه، هذه نتيجة، بل لأنّه خسِر الحبّ الحلال بجهالته! صار حبيسَ ديجور قلبه. لذا صرخةُ استعادة الفردوس في الأكباد عبَّر عنها مرنِّم المزامير بهذه الكلمات: “أخرِج من الحبس نفسي لكي أشكرَ اسمَك”! أما لهذا اللّيل من آخِر”، صرخ كيانه جيلاً بعد جيل!

     على هذا ليس تاريخ البشريّة تاريخ زنى قلبٍ وقهرٍ وموت بل تاريخ اشتياق غير مَرويّ إلى استعادة الحبّ، وصراخَ توقٍٍ أحشائيّ إلى الحقّ وعطشًا لا قرار له إلى الحياة الأبديّة! لم يأتِ الرّبُّ يسوع من الله المحبّة وحسب، بل من مخاض البشريّة المديد إلى ولادة جديدة، بالرّوح والحقّ، أيضًا! أكثر التّعبير كان بالحسرة!

     “علِّمني أن أعمل رضاك…”.

     لا يرضى الله عن أحد لأنّه يَخضع له. يَخضع المرءُ لمَن هو سيِّد عليه ولو سلطان. ولكن، ما دام أنّ السّيّد أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد، ما دام أنّه جاء ليَخدم لا ليُخدم، ما دام أنّه جاء ليغسل الأقدام بالعرَق المتصبِّب منه كالدّم، فلا سيادة، بعدُ، بالسّلطان بل بالخدمة، ولا عبوديّة بل أخوّة، ولا خضوع بل تحابّ. “أعطني قلبك يا بنيّ”. واحدة، فقط، تُرضي الله: “أحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك… وقريبك كنفسك”. لذا رضاه في المحبوبيّات! أنت سيِّدي لأنّي أحبّك! أنا أسيِّدك عليّ لأنّي، بالحبّ، أستعيد نفسي لك! أمَحي بإزائك لأُوجَد! لا وجود إلاّ من حبّ! الحبّ وجودٌ يتوارى أبدً، وتوارٍ ينضح وجودًا إلى حياة أبديّة! هكذا كشفَ الرّبّ الإله نفسه! الثّالوث القدّوس، وجوديًّا، حبٌّ فتوارٍ فخَلقٌ يتجدّد أبدًا! “… تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يوحنّا 7: 38). لا نبع ولا نهر، بل أنهار بلا حدود! الله أنهار تستدعي الإنسان أنهارًا! “لجّة تنادي لجّة على هدر شلاّلاتك”!

     بعدما فقد الإنسان ذاكرة المحبوبيّة، صار المرتجى أن تُزرَعَ فيه ذاكرةُ الحبّ من جديد! لذا تجسّد ابن الله معلِّمًا أوحد للحبّ لأنّه المحبّة، وسيِّدًا أوحد لمَن يشاؤون التّروّض على الحبّ، من جديد، باستعباد أنفسهم بمحاكاة مَن استعبَد نفسَه لهم، بالحبّ، أسيادًا! ملكوت السّموات ملكوت أسياد! أمّة كهنة وملوك! “نحن ذرّيةُ الله” (أعمال 17: 29)!

     المهمّ، أوّلاً، أن نعي أنّنا من دون الرّبّ يسوع المسيح، لا نعرف أن نحبّ. نحبّ أنفسنا في أشيائنا والنّاس. نستهلكهم استهلاكًا. نستعملهم. نستعبدهم. نسلبهم حياتهم. آكلو لحوم البشر كانوا، في الماضي، يرومون الإغتذاء بالحياة الّتي كانوا ينتزعونها، انتزاعًا، من سواهم. يرتوون من دماء غيرهم ويتملأون من لحمانهم. هذا ما كان متمثّلاً في وجدانهم، في لاوعيهم الخطيئيّ. هذا، في أعماق الإنسان، لمّا يتغيَّرْ. لا زلنا آكلة لحوم بشريّة! الشّكل تغيّر، الأسلوب! فقط بتنا يأكل أحدنا لحم الآخر… بصورة “حضاريّة”! حضارة هذا الدّهر هي، ولو حقّقت، أن تتعلَّم كيف تشرب دماء النّاس بطريقة “نظيفة”، “مهذّبة”! حضارة هذا الدّهر حضارة في مستوى المزاج، لا في مستوى الكيان! الإنسان الحضاريّ لا يستسيغ ذبح النّاس، مع أنّه قابل لأن يبرِّره ضمن ظرف أو آخر، لكنّه لا يشعر بالضّيم، ولا تتحرّك أحشاؤه! إذا ما ترك أحدًا يتخبّط في وحدته ووحشته حتّى الضّلال والانتحار! قلّما يبالي أحد، في حضارة هذا الدّهر، بحقّك ويعينك على أن تحيا وتفرح، رغم أنّ الإنسان، في الخلق، للإنسان مُعوان؛ ربّما إذا كنت من خاصّتهم، منهم ولهم، يبالون؛ ولكنْ، لك ملء الحرّيّة في أن تموت اختناقًا في مجتمع، كلٌّ فيه لنفسه، وأنت أضعف من سواك! حضارة لا تتجلّى فيها الحرّيّة إلاّ في الموت. إذا ما نحر المصارع ثورًا هتفت له الجماهير: بطولة! وإذا ما نطح ثورٌ مصارعًا حتّى الموت قالوا: وحشيّة! في دنفر، كولورادو، منذ أيّام، أطلق شخص النّار، في قاعة السّينما، على المشاهدين، فأصاب من اثني عشر مقتلاً وجَرَح ثمانية وخمسين! همجيّة! أصوات ارتفعت: أوقِفوا العمل بقانون يُشرِّع شراء السّلاح! حضارةٌ باطنها سمِجٌ غبيّ! أهو القانون يحلّ مشكلات المجتمع؟! مَن تراه يبالي بما نشأ عليه إنسان حتّى استوحش على هذا النّحو المأسويّ؟! أيَقتل الإنسانُ إلاّ لأنّه مغرَّب ولم يعرف الحبّ؟! لا يسمع أحدٌ، في عالم أصمّ وجعَ قلبِك إلاّ إذا صرختَ فيه قتلاً وشغَبًا! حتّى في هذه الحال لا يسمع! فقط لأنّك “انزعجتَ” تعترض وتستهجن! يموت مَن يموت، هذا تنساه بعد أيّام أو ساعات أو حتّى دقائق! حضارة مريضة تدفع الكيانات إلى الصّراخ وتعترض عليه! مَن تراه يبالي؟! خليقةً مشلّعة!!!

     والمهمّ، ثانيًا، أن نعي أنّ ابن الله تجسّد لكي يعلِّمنا كيف نحبّ. إذا لم يكن الحبّ مشاعر وعواطف وأحاسيس فليس هو، أيضًا، لا عظات ولا محاضرات! لا قيمة للكلمة إلاّ متجسِّدة، أو تكون صوتًا لا يلبث أن يتلاشى ويغور في جبّ النّسيان! لأنّ ابن الله المتجسِّد محبّة، كلّه محبّة، وما يأتيه محبّة وعن محبّة، وليست فيه ولا خليّة واحدة فارغة من المحبّة، فكلمته روح وحياة. ولأنّه يعلّمنا ذاته، “تعلَّموا منّي…”، فكلمته إيّاه، ممدودًا، إشعاعُ محبّتِه. مِن ذا نعرف أنّه هو الله ونؤمن به أنّه هو إيّاه الله محبّة ومعلِّم المحبّة أو ليس هو الله ولا حياة لنا به تُرتجى!

     ما كان ابن الله ليتجسّد لو لم يشأ أن يتّخذنا، أن يتّحد بنا، أن يتّحد بكلّ ما هو من الإنسان فينا إلاّ الخطيئة، لأنّه جاء ليحرِّرنا من ربقتها بالحبّ وللحبّ، حيث في الحبّ انتفاءُ الخطيئة. تجسَّد ليتبنّانا، ليلتزمنا، ليأخذنا على عاتقه؛ ليتّخذ، في ذاته، ما نجم عن غربة الإنسان عن الحبّ، عنه هو، موتًا وألمًا ووجعًا ووحشةً وغربةً وضيقًا واختناقًا… عانى ما لم يتسبّب به. كابد آلام غيره، كلّ البشريّة. هي شيمة المحبّة. “كيف أراك في الضّنك”، أنّ اللهُ، “يا حبيبي، ولا آتي إليك لأَكون معك، فيك، أنا أنت، وأنت إيّاي”؟! منذ أن حزم الابن الشّاطر أمتعته وارتحل إلى بلاد بعيدة، وأبوه مقيم في المعاناة المحبّيّة، لا شعورًا ولا عاطفة ولا إحساسًا، لأنّ الله ليس إنسانًا، بل ثقلٌ كيانيٌّ يفوق الشّعور والعاطفة والإحساس. الحبّ ربيب الألم الأكبر على المحبوب، إن شَرَدَ، حتّى يعودَ. “أَتبعُ أعدائي فأُدركُهم، ولا أرجع حتّى أُفنيَهم” (مزمور 18: 37). معاناة حتّى الدّمع! “وبكى يسوع”! فقط اتبعوه! “فليأخذ صليبه ويأتي ورائي”. ما تراني أفعلُه افعلْه أنت أيضًا! اشتهى يسوعُ الموتَ “لأنّ المحبّة قويّة كالموت” (نشيد 8: 6). إذا استبانت محبّة الله، في ملئها، عندنا، شركة في موت الحبيب، فلكي تَخرج من الموت حياة جديدة، بالقيامة. في نهاية المطاف، أعطانا الرّبّ الإله ذاته، في الجسد، ذروةَ محبّته، على الصّليب، لكي يُفعم كلّ خليّةِ موتٍ فينا محبّةً وحياة أوفر!

     والمهمّ، ثالثًا، بعد أن أحبّنا حتّى أطعمنا ذاته وسقانا دمه، أن نعي أنّ وصيّته، إن حفظناها، حياتُنا، وبها، فيه، نستعيد إسَّ كياننا، محبّتَه. في كلّ حال ثمّة وصيّة واحدة، منها تنبع كلّ وصيّة وإليها المعاد: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”. ليس الصّليب من الوصيّة، الوصيّة للمسرّة – “المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة”، صدحت ملائكة الميلاد –، الصّليبمن الغربة عن الوصيّة المغروزة في طبيعتي بدءًا! “طالت غربتي على نفسي. سالمت مبغضي السّلام. ولمّا كلّمتهم به ناهضوني بلا سبب” (مزمور   ). ما كان لحلاوة الخطيئة أن تُشفى إلاّ بمرارة الوصيّة. ليس أنّ الوصيّة مرَّةٌ، بل حلاوةُ المحبوبيّة، بالخطيئة، تمرمرت؛ صار الحلو مرًّا والمرُّ حلوًا. فكان لا بدّ من المرّ ليُستعادَ الحلوُ. الصّليب للقيامة، والحزن للفرح والجوع للشّبع والتّعب للرّاحة والموت للحياة! خُذْ السِّفْر، “خذه وكُلْهُ، فسيجعَلُ جوفك مرًّا، ولكنّه في فمك يكون حلوًا كالعسل” (رؤيا 10: 9)! إذ ذاك يخرج كلام الله من فِيك مقطّرًا بالعسل… ولا يعود أجوف! “شفتاكِ يا عروسُ [كنيستي] تقطران شهدًا، تحت لسانكِ عسلٌ ولبن، ورائحة ثيابكِ كرائحة لبنان…” (نشيد 4: 11)!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share