كيف تتم الوحدة بين اثنين، أبالشوق أي بالحب البشري بمقدار لهبه أم بالمحبة التي كشفها يسوع الناصري وهي قائمة على عهد إلهي ويعلمنا الفيلسوف الدنماركي كيركيغور ان الوصية: “احبب قريبك كنفسك” تعني، يجب ان تحب قريبك كنفسك. فنحن اذًا في ما يتجاوز الشوق الى الواجب الديني. الوحدة الزوجية ليست تاليا مجرد واقع. هي التزام امام الله.
اول ذكر حسب توارد النصوص في مجموعة الأسفار المقدسة ما ورد في سفر التكوين: “خلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وانثى خلقهم”. في هذه الرواية للخلق نفي لشرعية أو قدسية علاقة في الجنس الواحد أو ما يسميه بعض دول الغرب زواجا ولا سيما ان هذا الكلام الإلهي يكتمل بالقول: “أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض” ليس ان غاية الزواج هي الإخصاب وهذا الكلام ليس واردا في اية كنيسة لكن التكاثر من ثمرة هذه العلاقة.
في رواية ثانية في إصحاح لاحق من سفر التكوين ان الله بنى الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها الى آدم فقال آدم “هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي” ثم يكمل: “يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدًا”. وفي ترجمة حديثة “يتحد بامرأته” وترجمة اخرى “ويلزم امرأته”.
ما الجسد الواحد؟ هذا لا يعني البدن لأن هذا مستحيل. الجسد في الفكر العبري يعني الكيان اذ لم يعرف العبران ثنائية النفس والجسد. في التعبير الحديث نقول ان الذكر والأنثى في اتحاد روحين أو قلبين ليس انطلاقا من الشوق وحده تحقيقا لعرس طاهر كما يقول الأرثوذكسيون في حفلة الإكليل.
لا يبقى العهد الجديد على رؤية العلاقة الثنائية المحضة اذ يجعل من الزواج اولا علاقة تدوم كل الحياة اذ ينفي الافتراق في المبدأ وقد أضاف متى الى العهد القديم “الذي جمعه الله لا يفرّقه انسان”. عبارة “الا لعلّة الزنى” غير واردة في مرقس وفي لوقا. ما قد يفيد ذكره ان الكنيسة القديمة أباحت الزواج الثاني للفريق غير المذنب ولم تبحه للمذنب.
في الكنيسة الشرقية المعاصرة تدبير عملي انضباطي في إباحة الطلاق للطرفين لكن هذا لا يعني ان الكنيسة غيّرت موقفها العقائدي في ديمومة الزواج. الإباحة القضائية للطلاق في حالات محدودة جدا لا تعني فتح الباب لحلّ الرباط الزوجي. اما التفلّت فيقع عقابه على الطرف المتفلت. ولكن ليس هنا مجال الاستفاضة في هذا التأمل الفرعي.
ما يجعل الزواج “مكرما ومضجعه غير دنس” كما يقول الرسول هو تأكيد بولس ان هذه العلاقة آتية من الرب وقائمة فيه. الكلمة الفصل في رسالة بولس الى أهل أفسس هي: “ايها الرجال احبوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها”. في الحقيقة هذه محبة متبادلة بين الرجل والمرأة وواضح هنا مضمون المحبة. هي محبة المسيح لنا في موته. لا حدود تاليا للمحبة الزوجية لا شروط سلوكيا عند الآخر لتحبه. المرأة والرجل كلاهما من لحم المسيح وعظامه (أفسس 5: 30). بولس يؤكد ان الفريقين جسد واحد لكنه كان قد أكّد قبل ذلك ان كلا منهما في المسيح حتى أوضح في وضوح اعظم ان كليهما معا هما في المسيح.
هذا يدفعني الى ان أقول ان من لم تنزل عليه هذه الرؤية يعيش جسديا وزواجه من هذه الدنيا وفيها. اقول هذا بسبب مما لمسته في المحاكم الروحية في المنطقة التي أعيش فيها وقد كشفت لي ان الأزواج الذين يحيون في محبة السيد لا يجيئون الى المحاكم الروحية ولا يعرفون بابها ولا اوراقها. انهم فاهمون ان رباطهم نزل عليهم من فوق.
لست طفلا لأقرر ان عائلات كثيرة لم تعبر بمحنة الخلاف. انت لم تعرف زوجتك قبل دخولها بيتك. تتعرف الى بعض خصالها في ايام الخطبة اذا طالت. ولكن كل فريق منكما مخفية فيه اشياء كثيرة قبل القران أو تظهر فيه عيوب جديدة عليه وعلى زوجه بعد القران. بعبارة بسيطة تسوء العلاقات بسبب من اكتشاف الواحد للآخر بعد الزواج أو ينحط البيت كثيرا أو قليلا ومن بدا لك بارا قد لا يكون كذلك أو يتفلت من قيود البر ويتعذر عليك معرفة كل ميوله قبل اللقاء الزوجي.
الى هذا صعوبة المجانسة احيانا أو التأكيد المضخم لأهميّة هذه المجانسة. الى هذا طبائع ضعيفة وقلة من الصبر والاقتناع بضرورة الديمومة في العائلة. تسمع كثيرا من سنوات قليلة مضت: “أنا لا أحبه أو لا أحبها”. وهذا تعظيم رهيب لنطاق الشوق وهو يبقى قليلا على زخمه ولا يمكن بناء الزواج عليه وحده بعدما أسسنا الزواج على الاثنين رحمة من ربك.
أعرف ان بين علماء النفس مستشارين في الخلافات الزوجية. بعضهم ساعد ويساعد والعلم جميل اذا نجح. نحن لا نحيد عن العلم ولكن مقاربتنا للحياة الزوجية مقاربة إلهية قائمة على كلمة الرب والصلاة الدائمة. فالعائلة قائمة في صلاتها.
لما كنت صغيرا كنا نجتمع حول والدي يكلمنا عن ذكرياته في الحرب العالمية الأولى ومما كان يقول: فلان تزوج السنة الـ1916 وكنت اعلم ان هذا الوقت كان وقت مجاعة. ففهمت بحكايا ابي ان الظروف القاسية لا تقوم دون تلاقي الرجل والمرأة في حياة واحدة. ولكن في زمان هذه الحكايات في بداءة الثلاثينات من القرن الماضي ما كان ابي يحدثني عن طلاق. كنا نفهم ان الصبية تأتي الى خطيبها مزينة بالعفة وانه لا يخطر على بالها ان تخالفها لعل الناس ايضا كانوا يحافظون على فضائل الآخرين أو عهودهم.
تغيرنا كثيراً منذ زمان أبي ولا مجال الآن للتحدث في الأسباب وهي كثيرة لكنا لا نستطيع ان نرفض بخفة قدسية الزواج الذي يتم في الرب وان نرفض انه النموذج للعافية الروحية وان ما قاله الله قاله لكل الأزمان.
“ذكراً وأنثى خلقهم” ليؤلّفوا المعيّة الإنسانية المباركة الطيبة، ليتقدس كل جنس بالجنس الآخر. هذه هي مشيئة الله الثابتة وكلمته الأخيرة.