أبتِ، صاحب القداسة، منذ أيام يستبدّ بي دافع ملحٌّ للكتابة لك، لأحدّثك حديث ابنٍ مع أبيه.
ليست هي المرة الأولى التي أكتب لك فيها، وإن كانت رسائلي السابقة الأربع، ظلّت كلها دونما جواب، سواء منها ما أرسلته عن طريق السفارة البابوية بدمشق، أو التي رأيت أن أبلغك إياها في صيغة رسالة مفتوحة.
لو سألتني ما الذي يدفعني اليوم للكتابة لك؟ لقلت بكل صراحة إني لا أكتب أملاً في جواب أو في موقف، وإنما استجابةً لنداء داخلي فرض نفسه علي، إذ كنت أقيم القداس الإلهي منذ أيام، في كنيسة سيدة دمشق، التي كُلِّفتُ بالخدمة فيها منذ عام 1977. ذلك بأنه حدث لي، وأنا أتلو الإنجيل المقدس، أن صُدِمت أيّما صدمة، لكلام يسوع، الرائع والحاسم، إزاء مسبّبي المعثرة بحق حتى لطفل واحد.
إنه مطلع الفصل الثامن عشر من إنجيل القديس متى. وقد جاء فيه:
« وفي تلك الساعة، دنا التلاميذ إلى يسوع، وسألوه: من تُراه الأكبر في ملكوت السموات؟”
فدعا طفلاً فأقامه بينهم،
“وقال: “الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا، فتصيروا مثل الأطفال، لا تدخلوا ملكوت السموات”.
“فمن وضع نفسَه وصار مثل هذا الطفل، فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات.
“ومن قَبِل طفلاً مثله إكراماً لاسمي، فقد قَبِلني أنا.
“وأما الذي يكون حجر عثرةٍ لأحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فأولى به أن تُعلّق الرّحى في عنقه، ويُلقى في عرض البحر.
“الويل للعالم من أسباب العثرات! ولا بدّ من وجودها، ولكن الويل للذي يكون حجر عثرة!…»
أبت، صاحب القداسة،
هذا بعض ما كنت أتلوه من الإنجيل المقدس، حين سمعتُني أطرح في أعماقي، عليك أنت بالذات، ومن خلالك، على جميع مسؤولي كنائس الغرب، سؤالاً واحداً ملحّاً، هو التالي:
إن كان يسوع يرى أن من يكون حجر عثرةٍ لطفل واحد، يستحق أن يُعلّق في عنقه رحى الحمار، ويُزَجّ به في عمق البحر، فما عسى يكون مصير من يخطّط وينفّذ، منذ عشرات السنين، سياسات ممنهجة، لا ترمي في الحقيقة إلاّ إلى إرهاب وتجويع وتشويه وإمراض وتشريد وإبادة عشرات الملايين من الأطفال، عبر العالم، ولاسيما في العالمين العربي والإسلامي، مع جميع ذويهم من آباء وأمهات وإخوة وأخوات وأجداد؟
إنّ لفي هذا السؤال ما يبرز تفاوتاً مروّعاً، بين دعوة يسوع الرائعة إلى تكريم وتقديس كل طفل على وجه الأرض، من جهة، وما يبدو لي، أنا الكاهن العربي الكاثوليكي، استهتاراً صريحاً من كنائس الغرب كلها من جهة ثانية، بفعل صمتها الدائم إزاء ما يفعل حكام الغرب بالعالم كله!
أوليست الكنيسة “عمودَ الحق”، كما وصفها القديس بولس؟ فما هو مبرر وجودها، إن لم تجأر بالحق؟
أعرف أن كلامي سيفاجئك ويؤلمك، وأنا على يقين من أن أحداً، لا في كنائس الشرق، ولا في كنائس الغرب، لم ولن يصارحك بما سبق وصارحتك به قبل الآن، وبما أصارحك به اليوم.
ترى، هل يجوز لي أيضاً أن أعترف أمام الملأ، بأن هذا الذي أقوله الآن، حملتُه صليباً ثقيلاً منذ عشرات السنين؟ ولكم حاولت أن أفاتح بشأنه الكثيرين من مسؤولي كنائس الشرق العربي أولاً، ثم كنائس الغرب، منذ لقائي الأول، عام 1955، بذاك المطران القديس، “الفريد انسل”
(A. ANCEL)،
يوم كان رئيساً لجمعية كهنة “البرادو”، في مدينة “ليون” بفرنسا.
وإنه ليؤلمني غاية الألم أن أعترف الآن، لأول مرة، بأنه كان الوحيد الذي حاول، في اتضاع وانفتاح وألم، أن يعرف حقيقة ما تحمّل ويتحمّل الشرق العربي من طغيان الغرب ومؤامراته المتلاحقة، من أصل عدد كبير من الكرادلة والأساقفة واللاهوتيين، الفرنسيين وغير الفرنسيين، الذين دأبتُ على الكتابة لهم ومقابلتهم، دون أي جدوى، أمثال “هنري دولوباك”
(H. de LUBAC)،
و”فرنسوا مارتي”
(F. MARTY)،
و”هلدر كامرا”
(Helder CAMARA)،
و”جان ماري لوستيجه”
(J. M. LUSTIGER)،
و”ايف كونغار”
(Y. CONGAR)،
و”جوزيف دوفال”
(J. DUVAL)،
و”بيير بوبار”
(P. POUPARD)،
و”روجيه أتشيغاراي”
(R. ETCHÉGARAY)،
و”جان بيير ريكار”
(J. P. RICARD).
وهنا، لا يسعني، أنا الكاهن العربي الكاثوليكي، إلا أن أُكبر صدق وشجاعة وتواضع البابا يوحنا بولس الثاني، الذي تجرأ ودعا الكنيسة الكاثوليكية كلها في الغرب، إلى مراجعة تاريخها الماضي، من أجل طلب الغفران من الله والبشر على السواء، من جراء الانزلاقات والأخطاء، بل الخطايا التي زجّت ذاتها فيها، أو التي جُرّت إليها، بفعل تواطئها المزمن، الكلي أو الجزئي، مع السلطات الزمنية، وكذلك بفعل صراعاتها الطويلة، والدامية أحياناً معها، في مختلف العصور والبلدان. ولقد بلغ هذا البابا قمة النزاهة والشفافية، عندما شجّع صديقه الصحفي الإيطالي، “لويجي أكاتوللي” (Luigi ACCATTOLI)،
على جمع أربعة وتسعين تصريحاً له، وكلها خطيرة، بشأن هذا الماضي المؤسف، فأصدرها، عام 1997، في كتاب يحمل عنواناً صادماً، هو “عندما يطلب البابا الغفران”، وقد ظهر في ثلاث لغات دفعة واحدة، هي الإيطالية والإنكليزية والفرنسية.
صحيح أن هذا الكتاب المؤلم جاء متأخراً جداً، إلا أنه جاء! فما الذي يلجم الكنائس الغربية اليوم، منذ سنوات طويلة، عن التنديد بالسياسات الظالمة، واللاإنسانية، التي ينتهجها الغرب بانتظام، في انصياع أعمى وصارخ للصهيونية العالمية؟ ولئن كان هذا أو ذاك، من المسؤولين الكنسيين في الغرب، لا يجرؤ على اتخاذ مثل هذه المواقف الضرورية، لسبب أو لآخر، فما الذي يمنعك، وأنت السلطة العليا في الكنيسة الكاثوليكية، من أن تمارس حقك وواجبك في الدفاع عن المستضعفين في الأرض؟… ما لم تكونوا تنتظرون، بعد مئات السنوات، ظهور بابا آخر شبيه بالبابا يوحنا بولس الثاني، ليطلب الغفران من الله والبشر، عن خطيئة تجييش المسلمين ضد بعضهم بعضاً، ترحيل المسيحيين من شرق كانوا قد ملؤوه طوال مئات السنوات، وتعايشوا فيه مع المسلمين واليهود، بخلاف ما كان قائماً في الغرب، حيث ظل المسيحيون يقتتلون فيما بينهم طوال قرون وقرون!
أبت، صاحب القداسة،
اعذرني إن أطلت، إلا أن لدي أيضاً ثلاثة أمور، أرى من واجبي، في ختام هذه الرسالة، أن أذكرها.
الأمر الأول: يضطرني للتساؤل الصريح عن مكونات الدوائر المختلفة، من إدارية وقانونية وروحية وتمثيلية وإعلامية، التي يتألف منها الفاتيكان، إن في روما أو على نطاق العالم… وهذه المكونات، أفلا تراها تخضع كغيرها من المؤسسات البشرية المتمادية في القدم، لعوامل الاكتفاء والغرور والاهتراء والانحياز والجمود، بل والاستغلال الشخصي؟ والفاتيكان، كما هو معروف، هو أقدم المؤسسات في العالم على الإطلاق. فإن كان تخوّفي، أنا الكاهن الكاثوليكي، مطابقاً، ولو جزئياً، لواقع الفاتيكان، أفلا يصبح من الضروري المسارعة إلى إعادة النظر في إداراته كلها، داخل الفاتيكان وعبر العالم، لاسيما من حيث اختيار ممثليه، اختياراً ينهي استئثار الغربيين به، ولاسيما الإيطاليين منهم، ويفتح المجال واسعاً أمام مسؤولين ينتمون إلى مختلف الجنسيات والبلدان والثقافات، ولاسيما العربية منها…؟
الأمر الثاني: أخشى ما أخشاه أن تكون اللاسامية المزمنة واللاإنجيلية، التي مارسها الغرب، مجتمعات وكنائس، حيال اليهود، قد رسّخت فيه كله، ولاسيما لدى الكنائس، عقدة ذنب باتت تكبّلها، بل تدفعها لتبرير كل ما يرمي إليه الإسرائيليون، ومعهم بالطبع أجراؤهم من حكام الغرب، من دمار ونهب واحتلالات وقتل وتشريد، يطال العالمين العربي والإسلامي عامة، منذ مئة عام، ويطال فلسطين خاصة منذ ما يزيد على سبعين عاماً. وأما ما يشنّ على سورية، منذ سنة وخمسة أشهر، من حرب كونية غير مسبوقة، فليس، كما يرجون، سوى الحلقة الأخيرة من هذا المخطط الجهنمي. فهل من مسؤول واحد في كنائس الغرب اليوم، يظن أن في صمت هذه الكنائس، ما يكفّر عن خطيئة اللاسامية الكبرى، التي اقترفت طوال قرون وقرون؟ أوليس بالأحرى في هذا الصمت بالذات… خطيئة جديدة أفدح، تحمّل الكنيسة الغربية اليوم، قسطاً من جرائم الغرب والصهيونية معاً؟
الأمر الثالث والأخير: إنه يتعلق بتعامل كنائس الشرق والغرب مع الإسلام والمسلمين. وهنا، في مسعى مني إلى استبعاد ملابسات كثيرة حدثت في تاريخ كل من المسيحيين والمسلمين على السواء، كما في تاريخ جميع شعوب الأرض، أرى واجباً علي أن أذكّر بحادثة تاريخية نموذجية حقاً، وقد انفرد بها الإسلام دون سواه. ذلك بأنه، إبان فتحه لبلاد الشام ومصر والأندلس، سجّل سبقاً حضارياً لم يعرفه يوماً تاريخ جميع الفاتحين، لا قبله ولا بعده. فلقد عرف الإسلام أن يتعامل مع المسيحيين، سكان البلاد الأصليين، ومع اليهود، في جميع هذه البلدان، في أريحية وكبر وحكمة وبعد نظر. ولذلك قيل بحق، إن إسلام الشام هو الإسلام المعتدل، إيماناً ومعاملة وعيشاً مع غير المسلمين. والحال إن الحرب التي تشن اليوم على سورية، إنما يُراد لها أن تكون حرباً دموية ودينية، بين مسلمين ومسيحيين أولاً، بل حرب مذهبية ودامية بين المسلمين أنفسهم ثانياً. أوليس هذا بالذات ما عناه السيد كيسنجر عندما قال لثلاثة أشهر خلت: “لا بد من تدمير الإسلام في سورية، لأنه إسلام معتدل”!
وهنا، أرى إنه يتحتّم على كنائس الشرق العربي أولاً، مساهمة منها في إنقاذ هذا الإسلام المعتدل، ومن ثم في إنقاذ مؤمنيها العرب المسيحيين، وإنقاذ غرب جرّته الصهيونية إلى حرب مكشوفة مع هذا الإسلام المعتدل، كما جرّته إلى تجييش إسلام متطرف، لن يعتّم أن يغمره بدوره، بتطرفه وعنفه، أرى إذن إنه يتحتم على كنائس الشرق أن توحّد كلمتها في صدق وشجاعة، بعد أن فات من الوقت الكثير، وأن تسترشد بنخبة، من المؤرخين والمفكرين والمتعاملين مع الشأن العام، من مسلمين ومسيحيين، لتعلن أخيراً برنامج فكر وعمل، في هذه الظروف الاستثنائية والمصيرية. وعسى أن يُعتمد هذا البرنامج، إما كله وإما جلّه، في المجمع الاستثنائي العالمي الذي سيُعقد برئاستك في روما، في السابع من تشرين الثاني القادم، بدل أن يترك الأمر، كما حصل إبان “السينودس من أجل الشرق”، الذي عقد في روما في 10/11/2010، لأناسٍ قد لا يدرك معظمهم أن مصير العالم يتوقف على سلامة العلاقات بين الغرب كله من جهة، والعالمين العربي والإسلامي من جهة ثانية.
أبت، صاحب القداسة،أرجو المعذرة، لأني أطلت وصارحت.
أسألك البركة المحبة للعالمين العربي والإسلامي، والكلمة القوية والشافية لغرب “أغوته المادة والشهوة والشهرة، حتى كاد أن يفقد القيم”.
تقبل محبتي واحترامي البنويّين.
الأب الياس زحلاوي