في نهاية المطاف!

mjoa Friday August 17, 2012 189

     هل الصّلاة تنفع صاحبها؟ هل الصّوم؟ هل مساهمة الأسرار الكنسيّة تُحسِّن وضع الإنسان المؤمن؟ هل التّردّد على الكنيسة بانتظام؟ لبعض النّاس هذه أسئلة غريبة! ثمّة، ربّما، مَن يعثر بإزاء المؤمن الّذي يطرح أسئلة من هذا النّوع، وكأنّه، ضمنًا، يشكِّك بفعاليّة الصّلاة والصّوم والأسرار الكنسيّة والتّردّد على الكنيسة وما شاكلها من شؤون!

.
     ولو كان هذا ما يظنّه قوم، فالسّؤال مشروع تمامًا. طبعًا، كلّ هذا الّذي ذكرتُه ينفع، لا بل هو ضروريّ، وحتّى بديهيّ، شرط أن تكون حال المرء الدّاخليّة سليمة ومؤاتية لما يتعاطاه في هذا الشّان. الفرّيسيّ كان يصوم ويصلّي ويعشِّر بأمانة؛ رغم ذلك لم يَجْنِ إلاّ التّعب والإدانة. كان ذاتيّ البرّ، متشامخًا، محتقِرًا لمَن هو على غير سيرته. قلبه لم يكن نقيًّا. وبالعكس، لم يعرف العشّار لا الصّوم ولا الصّلاة الشّرعيّة ولا العشارة بأمانة. رغم ذلك نزل إلى بيته مبرَّرًا دون الفرّيسيّ. كيف؟ لأنّه عرف نفسه أنّه خاطئ. شعر بأنّه لا يستحقّ أن يرفع نظره إلى فوق. أدان نفسه. وعليه طلب رحمة ربّه. الرّحمة، في العمق، يطلبها العاجز، خاطئًا أو مريضًا أو مقهورًا. لمَن لا يعاني، طلبُ الرّحمة لا معنى له! قيمتها، في المعاناة، أنّ الإنسان يصرخها حيّةً من الأعماق!

كان العشّار متواضعَ القلب! ما الّذي أفسد على الفرّيسيّ صومه وصلاته؟ كبرياؤه! إذًا الكبرياء تعطِّل الصّوم والصّلاة وما إليهما. وما الّذي برَّر العشّار، رغم غربته عن الصّوم والصّلاة؟ تواضعُه! هل يعني هذا أنّه لا حاجة للصّوم والصّلاة بل إلى التّواضع وحده؟ كلاّ! بل يعني أنّ الصّوم والصّلاة لا يتفعّلان، على أهميّتهما، إلاّ بالتّواضع! لذا أضحت طِلبة العشّار: “ارحمني يا ربّ أنا الخاطئ” نموذجًا للصّلاة وكشفًا للطّبيعة الحقّ للصّلاة أنّها متواضعة، وأساسًا للصّلاة  المعروفة بـ”صلاة القلب” أو “صلاة يسوع”. التّواضع، هنا، لا نمثِّله تمثيلاً، بل نتمثّله تمثّلاً! ماذا يعني ذلك؟ المتواضع، أوّلاً، يعرف نفسه أنّه تراب ورماد. والمتواضع، ثانيًا، يعرف أنّه، بدون الله، لا يستطيع أن يعمل شيئًا. والمتواضع، ثالثًا، يلوم نفسه، في كلّ أمر، ولا يلوم أحدًا. والمتواضع، رابعًا، يجد لنفسه متعة في أن يَخدم لا في أن يُخدَم. والمتواضع، خامسًا، يتألّم لآلام النّاس دون شماتة، ويفرح لأفراح النّاس دون حسد. والمتواضع، سادسًا، يعتبر نفسه معنيًّا، بصورة مباشرة، بخلاص النّاس كما بخلاص نفسه. والمتواضع، سابعًا، يهتمّ بخلاص النّاس فوق كلّ اهتمام. والمتواضع، ثامنًا، يقدّم خلاص النّاس على مصلحته وراحته وكرامته، وحتّى، في الحالات القصوى، على حياته! التّواضع ليس مسكنة. الصّلاة المغمَّسة بالمسكنة نفسانيّةً تكون، عاطفيّة، مزاجيّة، انفعاليّة، ومن ثمّ عديمة القيمة. فيما الصّلاة المغمَّسة بالتّواضع، كما وصفناه، روحانيّة، حيّة، إلهيّة. من هنا أهميّة صلاة العشّار. التّواضع هو التّشبّه بالله. والمتواضع يقتدي بمسيح الرّبّ. لذا يتعاطى لغة الله؛ يدخل في وصال مع الله. ثمرة التّواضع الصّلاة الحقّ، والصّلاة الحقّ رائحة التّواضع!

     الصّلاة الحقّ، إذًا، تنجم عن حال قلب، من جهة، وتشير إليها وتعزِّزها، من جهة أخرى!

     بناء على ما تقدّم، هل يمكن الإنسان أن يبلغ الاتّضاع، وهو لا يتعاطى الصّلاة كما تعلِّمها الكنيسة، ولا يؤدّي الأصوام كما ترسمها الكنيسة، ولا يتمِّم الفروض كما توقِّعها الكنيسة في حياة المؤمنين؟ بكلّ تأكيد! ولكنْ علينا أن نميِّز، أوّلاً، بين فرض الصّلاة وروح الصّلاة. طبعًا، فرض الصّلاة لا ينفع إذا لم تكن روح الصّلاة موفورة في قلب المؤمن. الصّلاة ليست سِحْرًا! لكن فرض الصّلاة لا يتضمّن روح الصّلاة كتحصيل حاصل. يكون النّاس واهمين إذا ما حسبوا أنّهم إذا ما أتمّوا الفرائض جَنَوا ثمار الصّلاة. لذا قال الرّبّ: “ليس كلّ مَن يقول لي: يا ربّ، يا ربّ! يدخل ملكوت السّموات، بل الّذي يفعل إرادة أبي الّذي في السّموات” (متّى 7: 21). كذلك يكون النّاس مدّعين إذا ما حسبوا، واعين، أنّ بإمكانهم أن يقتنوا روح الصّلاة دون أن يخوضوا في فروض الصّلاة. فالقول الإلهيّ هو: “ينبغي أن يُصلّى كلّ حين ولا يُمَلّ” (لوقا 18: 1).

من المفترض، بعامّة، أن تَسير فروض الصّلاة وروح الصّلاة يدًا بيد! لكن هذا الأمر ليس دائمًا ميسورًا. السّبب؟ الظّروف الّتي ينشأ فيها النّاس أو الّتي يمرّون بها. فقد ينشأ الإنسان في عائلة لا تحافظ على العادات الكنسيّة، من جهة الصّوم والصّلاة وسواهما، إلاّ جزئيًّا، أو موسميًّا. وقد يمرّ بعض النّاس بظروف ينفرون بسببها من كلّ ما له علاقة بالكنيسة المؤسّسة وتعاليمها وعاداتها. مثل ذلك أن يعثر النّاس بسبب موقف أسقف أو كاهن من أمر ما أو سلوك أحدهما. هؤلاء قد يبتعدون عن جماعة المؤمنين وما تتعاطاه، لكنّهم لا يكونون، بالضّرورة، مبتعدين عن الله! لا شكّ أنّ تنفير بعض المؤمنين أو التّعاطي معهم بروح عدم المبالاة قد يتسبّب بجراح لنفوسهم ونفوس عائلاتهم، لا تندمل؛ لكن هذا ليس حتميًّا. فقد يتيسّر للمؤمن تراث روحيّ جميل ينحدر إليه من جدّيه أو من أبويه مثلاً؛ وقد يَعبر بخبرات شخصيّة تترك في نفسه آثارًا طيّبة، تولِّد فيه حالة روحيّة سامية! فإذا ما اقتنى الإنسانُ، بالتّنشئة، أو بالألم، أو بالاحتكاك بأشخاص مميّزين، عناصرَ تساعد على تواضعِ القلب لديه، فإنّه، حتّى من دون أن يتمرّس بالصّوم والصّلاة، كما تتعاطاهما الكنيسة، يقتني روحَ الصّلاة، ويصير، إلى قلب الله، أدنى من الكثيرين من الّذين نَمَوا في كنف العادات الكنسيّة

المتداولة، ولمّا يسلكوا في مسار تواضع القلب!

     من الأخبار الجميلة الّتي نقلها الأب الشّيخ بائيسيوس الآثوسيّ، في كانون الأوّل من العام 1988، أي قبل رقاده بحوالي خمس سنوات ونصف السّنة (في 12 تمّوز 1994)، أقول نقلها لأثناسيوس راكوفاليس، الخبر التّالي:

     زارني، يومًا، طبيب أميركيّ، من أصل يونانيّ. أرثوذكسيّ، لكن غير ملتزم بالكنيسة ولا مواظب على الصّيام ولا يتردّد على الكنيسة. لكنّه كان يصلّي في بيته. متزوّج وله أولاد. لم يكن لزوجته عمل. بدأت تلحّ عليه أن يخرجا ليلاً مع صديقاتها. سايرها. بعد حين، طلبت أن تخرج مع صاحباتها في رحلات وسهرات وحدها. لم يرتح لما طلبته. ألحّت. رضخ إكرامًا لأولاده. بعد ذلك طلبت أن يستأجر لها شقّة خاصّة لكي تستقبل أصدقاءها بحرّيّة. نصحها فلم تنتصح. رضخ من جديد لكي لا ينفرط عقد عائلته. بعد سنوات باتت إحدى عاهرات منطقة بيرية. حزن وبكى عليها لمّا درى بأمرها. فكّر أن يذهب لمقابلتها. ما النّفع؟ ركع وصلّى: “أنرني يا ربّ… ماذا أفعل؟ … ماذا أقول لكي تخلص هذه النّفس؟” لم يتألّم لأنّه أُهين في كرامته، أو جُرح في رجولته. لم يطلّقها. لم ينبذها. لم يهملها، لم يبالِ بما سبّبت له من معاناة. فقط تألّم لما أصابها. بكى لخلاص نفسها. ما شغله بقوّة: خلاصها! فماذا كانت النّتيجة؟ ذات ليلة، فيما كان يصلّي، انفتحت السّموات وغمره نور. تلاشى السقف من فوقه وتلاشت معه الطّوابق الأربعون الّتي تعلو شقّته. بقي مغمورًا بالنّور طويلاً… لقد شاهد النّور الغير المخلوق؛ ما يتعب فيه حتّى أكابر النّسّاك وقد لا يحقِّقونه!!!

     هذا إنسان بلغ التّواضع، وبه روحَ الصّلاة، وبروح الصّلاة النّورَ الإلهيّ! فيما أكثر النّاس، وحتّى أكثر المؤمنين بالرّبّ يسوع، يقطع الصّلة بكائن مَن كان، من أخصّائه، لو استبان غارقًا، بعناد، في الفجور، كامرأة هذا الطّبيب الأميركيّ، ولا يبالي بمصيره، لا سيّما إذا ما كانت سِمعتُه هو في خطر، وكرامتُه هو في الميزان. يقوم بذلك وهو مرتاح البال، ويعتبر نفسه مبرَّرًا تمامًا! وإذا ما صلّى من أجل خلاصه، كان ذلك، بالأحرى، في الشّكل، وبشيء، أو بالكثير من البرودة! مَن تراه ينسى نفسه وكرامته وسمعته، ويَقبل أن تقع عليه تعييرات المعيِّرين، ومع ذلك يصرّ على حمل ثقل مَن ارتضى اللهُ أن يكون أخًا أو أختًا له في المسيح إلى المنتهى، وهمّه الأوّل خلاصُه من هلاك أبديّ؟! مثل هذا الإنسان هو مَن يتمِّم النّاموس الإلهيّ كلّه، ويتمّمه في عمق مقاصده! أما قيل: “احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا أتمّوا ناموس المسيح” (غلاطية 6: 2)؟! مثل هذا الإنسان هو مَن يشهد، ويعكس، بالرّوح والحقّ، وجه مسيح الرّبّ، عبد يهوه، الّذي “حمل أحزاننا وأوجاعنا تحمّلها وهو مجروح لأجل معاصينا” (إشعياء 53: 4 – 5)!

     في نهاية المطاف، إذا لم تتمخّض مسيحيّتنا عن محبّة أحشائيّة للأخ المغرِق في خطيئته أو المهمَّش فما المنفعة؟! “إن كانت لي نبوّة وأعلم جميع الأسرار وكلّ علم… ولكن ليس لي محبّة فلست شيئًا” (1 كورنثوس 13: 2)! الصّوم والصّلاة ينفعان، فقط، إذا ما جعلتُ نُصْبَ عينيّ أنّ “أخي هو حياتي” (القدّيس سلوان الآثوسيّ)! إلى هذا الحدّ خلاصي قريب منّي، ولا بديل! بغير ذلك، “حتّى لو أطعمت كلّ أموالي، وسلّمت جسدي لأحترق… لا أنتفع شيئًا”!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share