تختلف الروايات في شأن استشهاد القدّيس يوحنّا المعمدان (النبي يحيى في القرآن). فيوسيفوس المؤرخ يعزو مقتل يوحنا إلى خشية هيرودس الملك من أن تصبح دعوة يوحنا ذريعة لحركة ثورية تطيح عرشه، فاستبق الأمور بأن أمر بقطع رأس يوحنا. أما الأناجيل فقد أجمعت على الدافع الديني والأخلاقي الكامن وراء غضب هيرودس على يوحنا. فهذا الأخير لم يتوانَ عن توبيخ الملك مندّداً بمخالفته الشريعة التي تمنعه من مساكنة هيرودية امرأة أخيه فيلبّس.
تتّفق الروايتان، الإنجيلية والتاريخية، مع اختلاف قراءتهما، على كون دعوة يوحنا ثورةً ضدّ الحاكم المتهتّك والظالم. فأن يقف يوحنا في وجه هيرودس، ويصرخ فيه قائلاً: “لا يحلّ لك أن تتزوّج هيرودية”، مذكّراً إيّاه بمقتضيات الشريعة، أو أن يؤلّب الشعب ضدّه لطغيانه، فتلك، لعمري، ثورة حقيقيّة تتطلّب شجاعة خلقية وأدبية رفيعة.
يوحنا كانت ثورته سلمية. لم يؤسس جيشاً، ولا ميليشيا مسلّحة، ولم يحشد الأتباع والموالين بالمال والسلاح، بل قاتل وحده بالكلمة العارية، لكن الصادعة بالحق. ويشهد القرآن لهذا الكلام حين يقرّر: “ولم يكن جبّاراً عصيّاً” (سورة مريم، 14). قال جهاراً، ومن دون وجل، ما كان يخشى قوله علماء الشريعة وكهنتها، ووجهاء القوم وأولو الأمر منهم. كان مدركًا أن أفضل الجهاد هو قول كلمة الحق في وجه سلطان جائر، وهكذا فعل غير خائف من عاقبة موقفه.
لم يعمل يوحنا من أجل مجده الشخصي. زهد بالدنيا وبالسلطة وبالمال، وعاش في البرية منادياً بالتوبة وغفران الخطايا، وكانت الجموع تأتي إليه لتعتمد. طلب من تلاميذه، هو ذو الشعبيّة الكبرى، أن يتركوه ويتبعوا المسيح، فقال لهم: “له هو أن يزيد، ولي أنا أن أنقص” (يوحنّا 3، 30)، “وأنا لست مستحقاً لأن أفكّ سيور نعليه” (متّى 3، 11).
وفي هذا تتّفق الأناجيل مع القرآن إذ يقرّر: “فنادته (زكريا) الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله (بعيسى ابن مريم) وسيّدًا وحصوراً ونبياً من الصالحين” (سورة آل عمران، 39).
اكتفى هيرودس برأس واحد قُدّم إليه على طبق من فضّة كي يحافظ على سلطته. غير أنّ هيرودسات هذا الزمن لا يشبعون من رؤية الرؤوس المذبوحة أعناقها والأجساد الغارقة بدمائها. قتل هيرودس الأكبر، جدّ هيرودس المذكور، أطفال بيت لحم، خوفاً من طفل وُلد في مذود للبهائم. أما هيرودسات هذا الزمن فيقتلون الأطفال وينحرونهم قرابين زكيّة على مذابح عروشهم، كآلهة الوثنيين ومصّاصي الدماء الذين لا ترويهم إلا دماء ضحاياهم البريئة.
“يا يحيى خذ الكتاب بقوّة” (سورة مريم، 12)، خاطب الله يحيى طالباً منه أن يشهد للحق، والحق ليس سوى الله نفسه، بفكره وقوله ودمه. كل ناطق بالحق يسكن فيه روح يوحنا، وكل صامت عن الحقّ هو شريك لهيرودس في جريمته. الصراع ما بين يوحنا وهيرودس لم ينتهِ بعد، ولا مكان للحياد في هذا الصراع، والفاتر يتقيّأه الربّ من فمه. هيرودس انتهى في مزبلة التاريخ، أما يوحنا فما زال صوته صارخاً في برية العرب وبيدائهم.