“سلفيّة” مسيحيّة أيضًا !

الأب جورج مسّوح Wednesday September 5, 2012 165

يسود عالمنا الراهن انتشار مَرضيّ للتطرّف الدينيّ، وليس ثمّة ديانة تخلو من المتطرّفين. فالوباء معدٍ، والتطرّف ينادي التطرّف ويسكب على ناره زيتًا على زيت. وهذا التطرّف له وجهان: وجه عنفيّ تمارسه بعض الجماعات ضدّ كلّ مَن يخالفها في الدين أو المذهب، ووجه سلميّ يقتصر على التمسّك بظاهر الشرائع والقوانين والطقوس والشعائر مع إهمال جليّ لروحها وجوهرها.

نشهد، إذًا، في ظلّ ما يجري في بلادنا من أحداث وتطوّرات، هيمنة للتيّارات المتشدّدة على الساحات الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. أمّا ما ينجم عن ذلك فقلق لدى مَن لا حول لهم ولا قوّة، وخوف على المستقبل وعلى المصير. وهذا يؤدّي لدى هؤلاء إلى التقوقع على الذات، والانعزال عن قضايا المجتمع والناس، والانكفاء عن المشاركة الوطنيّة والسياسيّة، والانضواء الحصريّ تحت سقف الهويّة الدينيّة أو الطائفيّة.

المسيحيّون العرب ليسوا في منأى عن هذا الوباء، وباء التشدّد. فثمة “سلفيّة” مسيحيّة، سلميّة إلى الآن، تنمو بين ظهرانينا باسم الحفاظ على الهويّة الدينيّة. ولا تخلو هذه السلفيّة من الروح الفرّيسيّة، أي التمسّك بحروفيّة النصوص الدينيّة التراثيّة، من كتاب مقدّس ومؤلّفات آبائيّة وأقوال رهبانيّة، من دون الأخذ بمقاصد هذه النصوص ومقتضياتها الإيمانيّة، وبالسياقات التاريخيّة والظروف الاجتماعيّة التي تفرض ذاتها على كلّ جيل من الأجيال.

ومن سمات هذه “السلفيّة” الناشئة احتكار الحقيقة والمعرفة الدينيّة والتقوى والغيرة على الإيمان والتفسير الوحيد الصحيح للكلام الإلهيّ. أمّا مَن يخالف بعض الآراء “السلفيّة” فهو جاحد بالحقيقة، ويحيا في الباطل، ولا يقارب التقوى، ويفرّط بالإيمان، وينحرف عن التفسير الصحيح… هو كافر غارق في الضلال المبين، وغير مهتدٍ بنور النهج الأمين.

مهما قسا الزمان وأحواله ينبغي على المؤمنين بالله ألاّ يفقدوا الثقة بقدرتهم، بعون الله، على مواجهة الصعاب مع الحفاظ على القواعد الأساسيّة التي يرتكز عليها إيمانهم. فليس باسم التمسّك بالهويّة الدينيّة يتمّ القضاء على الانفتاح الأصيل على مكوّنات النسيج الوطنيّ كافّة. المسيحيّة فعل، لا ردّة فعل وانفعال غرائزيّ. هي فعل محبّة، رمزها المصلوب الفاتح ذراعيه حاضنًا العالم كلّه. وليس للأنانيّة المنغلقة على ذاتها أو للنرجسيّة المعجبة بذاتها أيّ اعتبار لديها.

من هنا، يأتي الحديث عن الانفتاح الأصيل البعيد عن التراخي والمساومة والانفلاش. هذا الانفتاح المتجذّر في الإيمان الذي لا يخشى من مواجهة التحدّيات والمصائر بعزم قويّ وإرادة صلبة. فالشهادة المسيحيّة، في ديار العرب، لا تتحقّق عبر التشدّد والمزيد من التزمّت، ولا عبر أنواع ممجوجة من التلفيق الكاذب. فالأمانة للأصالة تعني الدعوة إلى قبول التنوّع والتعدّد والاختلاف، وإلى احترام الإنسان القيمة الكبرى في الخليقة. وهي لا تعني التقيّد بظاهر الشرائع والشعائر وحسب، بل السلوك بموجب المحبّة والرحمة والسلام والتآخي… والالتزام بقضايا الوطن والمجتمع والإنسان.

تشبه الأصالة وردة تزداد أوراقها انفتاحًا، ويزداد أريجها انتشارًا ما دام جزعها منغرسًا في الأرض، وتفقد نضارتها وعبيرها وتذبل وتموت عندما تُقلع من ترابها. فالمؤمن الأصيل يزيده التمسّك بالإيمان انفتاحًا كي ينشر جمال تراثه حيث هو يحيا. هكذا يكون الأكثر تجذّرًا هو الأكثر انفتاحًا، والأكثر انفتاحًا هو الأكثر تجذّرًا.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،5 أيلول 2012

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share