النبيّ،(١) في الكنيسة الأولى، هو المبشّر بكلمة اللَّه، هو ذاك الذي يملك موهبة خاصّة، ويتلقّى كلامه من الوحي والإلهام، فيعلن مقاصد اللَّه الخلاصيّة بالنسبة إلى العالم وإلى الكنيسة، ويكشف مشيئة اللَّه للعالم ولمجموع المؤمنين. أمّا فعل “تنبّأ” في العهد الجديد، فقد عنى من بين ما عناه التبشير بالرسالة الموحى بها إلى النبيّ والتعليم والتذكرة والتعزية: “الذي يتنبّأ يبني كنيسة اللَّه” (كورنثوس الأولى 14، 4)، وأيضًا في الرسالة ذاتها: “فإنّكم تستطيعون أن تتنبّأوا جميعكم واحدًا فواحدًا، ليتعلّم الجميع، ويتعزّى الجميع” (14، 31).
والنبيّ هو، أيضًا، الذي يحرّض المتكاسلين والمتوانين والمتقاعسين، ويشجّع الممتحَنين ويثبّتهم في الإيمان: “ويهوذا (غير الإسخريوطيّ) وسيلا، إذ كانا هما نبيّين، وعظا الإخوة بكلام كثير، وثبّتاهم” (أعمال الرسل 15: 32). وقد ورد في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس: “أمّا الذي يتنبّأ، فيكلّم الناس كلام بنيان وموعظة وتعزية” (14، 3).
لا تقتصر النبوّة المسيحيّة الأولى على الكشف عن المستقبل، ولا على التبشير بالأحداث الأخرويّة… بل هي تتناول بعض المسائل العمليّة الراهنة. فالنبيّ لا يعلن فقط ماذا ينوي اللَّه أن يفعله، بل يوضح ماذا يريد اللَّه من الناس أن يعملوه، كما جرى مع بولس الرسول حين قال لتيموثاوس في رسالته الأولى إليه: “أستودعك هذه الوصيّة يا تيموثاوس ابني على حسب النبوّات التي سبقت في حقّك لكي تتجنّد على مقتضاها التجنّد الحميد” (1، 18).
ولا تتقصر النبوّة في العهد الجديد على عدد محدود من المؤمنين، بل هي، وفق سفر أعمال الرسل، ستُعطى للجميع فيمتلئون من الروح القدس، كما جرى يوم العنصرة المقدّسة: “فطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى كما آتاهم الروح القدس أن ينطقوا” (2، 4). وفي مكان آخر من الكتاب ذاته، يشير كاتبه إلى موهبة النبوّة بكونها تبليغًا جريئًا لكلمة اللَّه: “فلمّا صلّوا، تزلزل الموضع الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأوا جميعهم من الروح القدس، وطفقوا ينادون بكلمة اللَّه بجرأة” (4: 31). هذه الموهبة الجماعيّة تقتنيها الكنيسة مجتمعةً تحت سلطان رأسها الربّ يسوع. ويسعنا القول، هنا، إنّ الروح لا يستحوذ على هذا أو ذاك من أعضاء الجماعة فحسب، بل يدعو الجميع إلى التنبّؤ. فليست موهبة النبوّة محصورةً في بعض الأفراد، بل هي تعطى لكلّ واحد، ووفق استجابته لنداء الروح. لذلك، وبسبب عدم استجابة بعضهم، نراها من نصيب عدد معيّن من أعضاء الجماعة الكنسيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ النبيّ المسيحيّ، مثله في ذلك مثل النبيّ في العهد القديم، يعلن بسلطان مشيئة اللَّه. ولكنّه ليس سيّدًا على الآخرين، بل هو أيضًا خاضع للفحص والحكم. فليس مقامه فوق الجماعة، بل هو كسواه عضو في هذه الجماعة. مهمّته تصويب مسيرة الجماعة إذا تهدّدها خطر الانحراف، وتذكيرها بالتعليم الإلهيّ إذا ما استهوتها الهرطقات والبدع، والنطق جهارًا بمشيئة اللَّه “الآن وهنا” وفق السياقات الآنيّة.
كتب الرسول بولس متسائلاً: “ماذا أنفعكم إذا لم أكلّمكم بوحي أو بعلم أو بنبوّة أو بتعليم؟” (كورنثوس الأولى 14، 6). النبيّ ينطق بالأقوال التي تتعلّق بوضع الجماعة الراهن، ويرسم، في الآن عينه، طريقها إلى المستقبل الذي يريده اللَّه لها. وهو، أيضًا، الذي يجعل الإنجيل وتعاليمه قاعدةً للإجابة عن أسئلة الناس في وجه التحدّيات المعاصرة، ومعينًا لهم على إيجاد حلول منسجمة ومتناغمة مع التعليم الإلهيّ لمشاكلهم وهمومهم اليوميّة.
النبوّة، إذًا، هي غير محصورة في المؤسّسة الكنسيّة الرسميّة، أو في مَن يتولّون أمرها. قد تنطق المؤسّسة، تارةً، وفق الروح النبويّة، وتارةً أخرى، قد تنحرف وتنساق وراء روح “هذا العالم”. والتاريخ يرينا أنّ بعض المجامع الكنسيّة قد تبنّى تعاليم خاطئة (مجمع اللصوص مثالاً)، ما لبث بعض الأنبياء من أبناء الكنيسة أن وقف في وجهها وصحّحها، وأعاد الجماعة إلى سكّة الإيمان المستقيم.
حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ينبغي أن تكون نبويّة أبدًا، كيلا تفقد جدوى وجودها. فالحركة التي أطلقها الروح منذ سبعين عامًا لا يسعها أن تستمرّ على أمجاد الماضي وما صنعه كبارها عبر السنوات الغابرة. وهي مدعوّة إلى الحفاظ على الروح النبويّة التي بثّت فيها الحياة، من دون خوف أو وجل أو تنازلات تقدّمها لأولي الأمر على حساب التعليم المستقيم. والخطر الأكبر الذي تواجهه الحركة إنّما هو خطران يتهدّدان الكنيسة اليوم: خطر الدهريّة، وهي المزج بين الروح الإلهيّ وروح هذا العالم، وخطر التطرّف والتقوقع ورفض الحداثة.
إذا شاءت الحركة أن تبقى حركة النهضة في الكنيسة، فعليها أن تبقى تنطق بكلمة اللَّه “الآن وهنا”.والنهضة نبويّة تكون، وإلاّ ليست نهضة.
مجلة النور، العدد السادس 2012، ص 282-283