هذه المقالة استكمال لما كتبناه ونشرناه الأسبوع الفائت بعنوان: “إلى أين تذهبون بنا؟!…”
هَل ثمّة إمكانيّة قيامة جديدة، عندنا، أم نحن محكومون بروح الانحراف والفشل؟!
على أيّ انحراف نتكلّم؟
ليس لأيّ شخص ولا لأيّ جسم مسؤول، في كنيسة المسيح، أن يؤسّس هيئة، بقرار وقوانين، ويُسبغ الصّفة الكنسيّة عليها، كائنة ما كانت، إلاّ استنادًا إلى معايير كنسيّة صارمة، وانطلاقًا منها، على نحو واضح وصريح ودقيق! للمسؤول أن يستشير وأن يستعين بذوي الاختصاص، في الشّؤون العلميّة أو المهنيّة أو ما يعادلهما، بناء على أهليّتهم، أكانوا من أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة أو من غيرها؛ ولكنْ ليس له أن يؤسِّس لهم، من منطلق تبوّئهم وظائف عالميّة لديه، باعتبار صفته الكنسيّة، وبقرار وقوانين مجمعيّة، هيئات محدّدة، ويُضفي عليها الصّفة الكنسيّة، معتبرًا إيّاها هيئات ذوات “شخصيّة معنويّة” تتمتّع، ضمن الكنيسة الأرثوذكسيّة، “بالاستقلال الإداريّ والماليّ”. هذا انحراف!
وجه الانحراف في النّظام الأساسيّ المقترح للهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان أنّه يُدرِج، في عضويّة الهيئة، حُكمًا، أشخاصًا، من منطلق الوظائف الّتي شغلوها في السّابق، أو يشغلونها حاليًّا؛ وتتراوح بين نيابة رئيس مجلس النّواب الحالي ومجلس الوزراء، ونوّاب رئيس المجلس النّيابيّ ومجلس الوزراء السّابقين، والنّوّاب والوزراء، ذوي الصّفة عينها، والمدراء العامّين والقضاة والعسكريّين برتبة لواء، والسّفراء، ورؤساء النّقابات، ورؤساء اتّحاد البلديّات… عبورًا بأصحاب التّلفزيونات والإذاعات والصّحف، ورؤساء مجالس إدارة والمدراء العامّين للمصارف والمستشفيات الخاصّة والشّركات إلخ… وصولاً إلى الجمعيّات الّتي يزيد عدد المنتسبين إليها عن المئتَين، من ذوي التّابعيّة لطائفة الرّوم الأرثوذكس، أو لمَن لمؤسّساتهم صفة طائفيّة أرثوذكسيّة. لهؤلاء وسواهم، جميعًا، احترامنا الكامل. هؤلاء أحبّاؤنا في كلّ حال. وهؤلاء نستشيرهم ونستعين بهم، في حدود الشّريعة، وفي شؤون ينفعوننا فيها، لقضاء حاجات تخصّ المؤسّسات الكنسيّة الأرثوذكسيّة وأبناء الإيمان القويم وكلّ فقير، أو مظلوم، أو محتاج إلى خدمة إنسانيّة، كائنًا مَن يكون، من طائفتنا أو من غير طائفتنا، من أبناء الوطن الواحد! هؤلاء – أعضاء الهيئة – يمكن أن يكون بينهم قدّيسون! لا ما يمنع! الله يعلم! ولكنْ ليس لنا، باعتبار صفتنا الكنسيّة الّتي نحن مؤتمَنون عليها، أن نولّيهم، هيئاتٍ أو أفرادًا، على أبناء الإيمان القويم، في خدمة ذات صفة كنسيَّة، بقرار وقوانين صادرة عن المراجع الكنسيّة المختصّة، لئلا يؤذوا أنفسهم وشعب الله ويجرحوا كنيسة المسيح! ليس كافيًا أن تستلهم “الهيئةُ” القيمَ المسيحيّة، في الشّؤون الّتي تتعاطاها. هذا كلام في الهواء، ولا يكفي، حتّى لو كان صحيحًا! ما لم يخضع أيٌّ كان للفحص والتّدقيق، في شأن انتمائه الكنسيّ، لجهة استقامة إيمانه وسلامة سيرته الرّوحيّة وتقواه وحفظه الوصايا الإلهيّة وسلوكه في مخافة الله، فلا يمكن ولا يجوز أن يُدرَج في عداد خدّام الكنيسة أيًّا تكن الخدمة المولَج بها! وكلّ هيئة، في كنيسة المسيح، هي هيئة خدّام يخضعون، حُكمًا، للمعايير الكنسيّة أوّلاً أو لا يولَّون!
إذا لم يكن خادم الكنيسة صاحب وجدان كنسيّ قويم، فلا يمكنه أن يتعاطى أي شأن من الشّؤون الكنسيّة على نحو كنسيّ قويم! الكنسيّات لا تأتي بالسّليقة، بل بالمراس اليوميّ على التّقوى ومخافة الله! ليس همُّنا الأساس أن يكون عندنا سياسيٌّ أرثوذكسيّ محنّك أو رجل اقتصاد مرموق أو أستاذ جامعة لامع، أو موظّف كبير له صداقات وعلاقات يُعتدّ بها! همُّنا الأساس أن يكون عندنا رجلٌ لله أوّلاً! ومن ثمّ، لو أمكن، أن يكون عارفًا بالشّأن السّياسيّ أو الاقتصاديّ أو التّربويّ أو ما شاكل. فلأنّه يكون رجلاً لله، يكون بإمكانه أن يتعاطى هذا أو ذاك من الشّؤون الكنسيّة بطريقة إلهيّة بشريّة موافقة! الرّوح الّتي يتعاطى فيها رجل الله الأمور، إذ ذاك، تكون مختلفة، إذ إنّه يعمل، تلقاءً، لوجه الله بصدق، ولخدمة أحبّة الله بتجرّد حقيقيّ وشهامة وبذل وتضحية، ولا يطلب، بحال، ما هو لنفسه! أمّا إذا لم يكن المولّى على أيّ شأن كنسيّ، على تُقى، بالمعنى الّذي سقناه أعلاه، فإنّ الرّوح الّتي سيتعاطى فيها شؤون شعب الله والمؤسّسات الكنسيّة ستكون مختلفة تمامًا! مَن ليس له روح الله، تتحكّم بسلوكه، لا محالة، وكائنًا مَن يكون، أهواءٌ أبرزُها، اليوم، عندنا: السّلطة والسّياسة والمال!
السّياسيّ الّذي انتماؤه الكنسيّ صُوَريٌّ، لا يمكنه إلاّ أن يستغلّ موقعه، إذا ما أُولي مسؤوليّة ما، في الطّائفة الأرثوذكسيّة أو سواها، لا فرق، لمصالحه السّياسيّة أوّلاً! وكذلك يسعى رجل المال والاقتصاد إلى تأمين الأرباح لنفسه! الموظّفون يهمّهم أن يترقّوا أوّلاً! الكلّ، إذ ذاك، يسعى، باسم “الطّائفة”، وعلى حسابها، إلى تثبيت موقعه وزعامته وتأمين مصلحة نفسه! وخدمته تكون، بالأحرى، لأخصّائه، وبالأكثر في حدود محسوبيّاته! الشّعب المؤمن، إذ ذاك، يوجَد متهافتًا كالعبيد على مَن يمكن أن يؤمِّن له وظيفة هنا أو خدمة هناك، ويتودّد ويتزلّف لأصحاب المواقع المتقدّمة في الطّائفة، متوسِّطًا لديهم سؤلاً لخدمات مشروعة وغير مشروعة سواء بسواء! وعلى هذا يوجد شعبُ الله مستغَلاً، في إطارٍ مقنّن كنسيًا، ويتعرّض للممارسات الفاسدة والشّاذّة كما يتعرّض مجمل سكّان هذا البلد المسكين، أيضًا وأيضًا؛ ما ليس خافيًا على أحد!
أكثر من ذلك، أنّ مَن يتولَّون الخدمة المدنيّة باسم الطّائفة الأرثوذكسيّة، لا يمكنهم، والحال هذه، إلاّ أن ينشقّوا، في وقت من الأوقات، عاجلاً أم آجلاً، في إطار النّزاع المحتّم على السّلطة، في الهيئة، إلى أفرقاء يستزلم أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة، وحتّى بعض الأساقفة والكهنة، إلى هذا أو إلى ذاك منهم لقاء خدمات خاصة وأموال. فتصير أواخر أحوال الطّائفة الأرثوذكسيّة أسوأ، بما لا يُقاس، من أوائلهم! ويكونون، قد تحوّلوا من الاهتمام الكنسيّ الأصيل إلى الاهتمام الطّائفيّ ذي الأركان الواهية، ومنه إلى الانقسام والتّشرذم! كلٌّ، إذ ذاك، يدّعي تمثيل الطّائفة وخدمتها، ويسود البلبال! فتأكل الهيئة، من حيث يدري أعضاؤها ولا يدرون، الأخضر واليابس، ولا يبقى لشعب الله إلاّ الضّياع والفتات والانقسام والكلام الرّنّان والخرنوب المرّ!
وعلى أيّ فشل نتكلّم؟
علينا أن نقرّ ونعترف بأنّنا قد فشلنا في تطبيق قوانين المجالس الرّعائيّة والأبرشيّة (1973 / 1993)! لو أحسنّا تطبيقها، لما وصلنا إلى حال الضّياع الّتي نعانيها اليوم، ولما سعينا إلى مخارج، كاقتراح إنشاء “الهيئة المدنيّة العامّة”، موضوع اعتراضنا؛ ما لا يمكن أن يفضي بنا إلاّ إلى انحراف كبير، وإلى ما يشبه “تصفية” الكنيسة المقدّسة، لا سمح الله، على نحو تصفية الشّركات المُفلِسة!!!
نعلم، أقلّه، بعض أسباب الفشل في تطبيق قانون (1973 / 1993). حرب 1975 – 1990 أخّرت التّنفيذ. التّهجير عطّله إلى حدّ بعيد. كذلك عدم توفّر آليّة التّنفيذ. وغياب الهيئات المختصّة الّتي تتابع، في كلّ أبرشيّة، اختيار وإعداد أعضاء المجالس والإشراف عليها. وأيضًا تعنّت العديد من أعضاء المجالس. والسَّرَيان المعاند للمعايير العائليّة والمحسوبيّات والنّزاعات السّياسيّة وعلى البلديّات والزّعامات المحلّيّة، كأمر واقع ومفروض. وخضوع الأساقفة للإرهاب الفكريّ في الرّعيّة. واعتيادهم ربط الأمور الرّعائيّة والأبرشيّة بأشخاصهم مباشرة. والرّضوخ للتّبلّد. وضعف النّسيج الإيماني في النّفوس، ما لا يشجِّع على التّدابير القاطعة إلخ… تسعة وثلاثون عامًا مضت على القانون، وقد غطّى هشيم التّسيّب والتّفرّد ممارسات المجالس. الأساقفة اعتادوا على تسيير الأمور خارج أصول الشّورى! وعامّة المؤمنين استقالت معتبرة أنّها غير معنيّة بما يجري! منذ بعض الوقت قامت حركة دعت نفسها “اللّقاء الأرثوذكسيّ الرّعائيّ”، هدفها الحثّ على تنفيذ قانون المجالس باعتباره الحلّ الوحيد لإعادة الأمور إلى نصابها، واستعادة التّفاعل والتّعاضد والتّكامل بين الأساقفة والكهنة والشّعب المؤمن، في إطار الشّورى الّتي طالما تغنّينا بها! ما يطالب به هذا اللّقاء يُفترض أن يكون بديهيًّا لدى الجميع. ولكنْ، ولو عبّر بعض الأساقفة عن تبنّيه لمسعى “اللّقاء”، فالتّبلّد في الهمم واعتياد الانفلاش والهشيم الرّعائيّ والتّفرّد، كلّ هذا وغيره كفيل، ضمن واقع المعطيات الرّاهنة، بتعطيل أو تجميد كُلّ مسعى رصين إلى التّغيير والنّهضة حتّى إشعار آخر! ليس بالأمر السّهل، بعدما خبرتَ العقم والفشل، أن يقنعك أحدٌ، بسهولة، أنّه بإمكانك أن تبدأ من جديد وأن تنجح!
ونعلم، أيضًا، بعض الأسباب الّتي حدت وتحدو “اللّقاء الأرثوذكسيّ” وغيره من الحركات الطّائفيّة الأرثوذكسيّة النّاشئة، إلى المطالبة والسّعي، وفق تصوّرها للأمور، إلى جمع شمل أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة، اليوم. الأرثوذكس حاليًّا، في المناخ الحادّ للطّائفيّة في البلد، يسيرون من حرمان إلى حرمان أكبر. ليس مَن يسأل عنهم. لا مرجعيّة قويّة لهم. يعانون الضّياع! لا فقط ضائعون كنسيًّا بل ضائعون طائفيًّا أيضًا! لا شكّ أنّ في صدور العديدين من المطالبين بتوحيد الصّفّ الأرثوذكسيّ واستعادة حقوق أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة صدقًا ومشاعرَ طيِّبة! لا شكّ، في إطار الواقع الطّائفيّ للبلد، أنّ لكنيسة الرّوم الأرثوذكس، هنا، وجهًا طائفيًّا لا يجوز إغفاله! لا بدّ من أخذ موضوع حقوق أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة في الاعتبار الجدّيّ. ولكنْ، هذا لا يكون، ولا يجوز أن يكون، بالطّريقة المقترحة، من خلال التّأسيس للهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان! هذا لا يمكن أن يؤدّي إلى تحصيل فعليّ لحقوق الأرثوذكس كطائفة، بل إلى حالة غوغائيّة ضمن الطّائفة، وإلى إطاحة صرحها الكنسيّ وتفتيت الشّعب الأرثوذكسيّ فرقًا تتصارع!
لا بدّ من العودة إلى الأساس الكنسيّ للبنيان؛ ومنه، وفي ضوئه، يُصار إلى احتواء حاجات أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة وحقوقها في هذا البلد. لكنْ، هذا يستلزم، أوّلاً، نقدًا ذاتيًّا حقيقيًّا للممارسة الكنسيّة، وتعاضدًا محبّيًّا بين أبناء الكنيسة الواحدة. نحن في بحر مائج كنسيًّا وطائفيًّا. أكثر ما نحتاج إليه، في الوقت الحاضر، العودة إلى الذّات والتّأنّي والانكباب على الإصلاح الكنسيّ بروح الوحدة والمحبّة والهدوء وقوّة العزم. في ضوء ذلك، كلّ تسرّع في أخذ القرارات تسريعٌ لارتطام سفينة الكنيسة الأرثوذكسيّة بالصّخور الرّابضة في المياه المائجة وضفافها، ما يمكن أن يحطِّم السّفينة ويعقِّد الأمور، فيها، بالأكثر، ويبلبل كنيسة المسيح على نحو مأسويّ!
على هذا، ندعو غبطة البطريرك والأساقفة الأجلاّء إلى عدم التّسرّع في إقرار مشروع “الهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان”، كما هو مقدَّم. هذا إطار خَطِر، شكلاً ومضمونًا، لفكرة لا تخلو من الإيجابيّات. كما ندعو الكهنة والرّهبان والرّاهبات وسائر المؤمنين والمؤمنات، في كلّ مكان، إلى معارضة المشروع المقترح لدى السّادة أساقفة الأبرشيّات، إمّا بالمراسلة الإلكترونيّة أو الاتّصال الهاتفيّ أو اللّقاء الشّخصيّ، والتّمنّي عليهم أن يأخذوا الأمور بالرّويّة ولا يسمحوا بتمرير قرار، على هذا القدر من الدّقّة والخطورة، بخفّة وبسرعة! الموضوع بحاجة إلى درس جزيل وإمعان نظر. شعور الكثيرين أنّنا لسنا بصدد تشكيل هيئة تهتمّ بتحصيل حقوق الطّائفة، بقدر ما نحن بصدد تشريع كنسيّ لتسليم “خدمة الموائد”، بالتّعبير الكنسيّ، وخدمة المحبّة، بالتّعبير العصريّ، لقوم، من دون اعتبار لأهليّتهم الكنسيّة، فقط لأنّهم من أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة، من السّياسيّين والموظّفين وأصحاب المال والأكاديميّين… الظّرف حرج، والخطوة النّاقصة في الاتّجاه غير الموافق قد تفضي بنا إلى أذىً كبير وتعقيد صعب وانقسام خطير!
نصّ مشروع القانون الأساسيّ للهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان