ينعقد غداً في دير البلمند المجمع الارثوذكسي الانطاكي المقدس. جدول اعماله مثقل بشؤون وشجون كثيرة. فالمرحلة محورية وهي الاخطر والاصعب والاكثر مفصلية للبطريركية ومشرقنا العربي، مرحلة تعبق بالمخاطر التي قد تهدد أسس التنوع والغنى والتعايش الحضاري في الشرق العربي. تحديات كبرى تواجه الجميع في مشرق يعيش مخاضاً للتحول السياسي غير المسبوق. الكل، من ذوي النيات الحسنة، يبحث في عين العاصفة عن مسالك الاتجاه الصحيح الذي يجب ان نسلكه، مسلمين ومسيحيين، لتدعيم ثقافة العيش المشترك ولقوننة “شراكة المواطنة”،
في مجتمعات ديموقراطية رائدة حرة تعلي شأن وكرامة وحرية الانسان العربي. في ظل أزمنة التحول العربي هذه، تطرح اليوم قضايا عدة حول وضع الطائفة الارثوذكسية في لبنان. الزاوية، على اهميتها، تبدو لي “تفصيلاً” قياسا بالتحديات الكبرى التي تواجهنا كأرثوذكس. فمسألة انشاء “هيئة مدنية للروم الارثوذكس في لبنان، قد امست، قبل درسها من المجمع، خلافية وموضع تجاذب كبير بين من يدعمون هذا النهج ومن يعارضونه. جوهر التجاذب؟ هل الارثوذكس في لبنان طائفة أم كنيسة؟ منهم من يشير الى خطر الهيئة على الكنيسة التي، ان كانت على ضعف ما، قد تسقط في “فخ” الطائفة، فتتلون بلونها بدل ان ترفعها هي الى مقاييس الكنيسة. ومنهم، المنادي باستعادة “حقوق الطائفة”،
يقول بضرورة الانطلاق من ارض الواقع اللبنانية الطائفية والتعامل معه، بشكل طائفي، فنداويها بالتي كانت هي الداء! مقاربتان متباعدتان في المقاييس والمنطلقات. وقد يصبح الحوار بينهما حوار “طرشان”! المطالبة بالحقوق، ضرورة. وكل سعي لجمع الطاقات الارثوذكسية وتنسيقها مرحب به. لكن الارثوذكس ليسوا في لبنان وفي هذا الشرق، طائفة ككل الطوائف، بل هم كنيسة المسيح. وهذا ليس قولا انشائياً بل معادلة محورية ايمانية تفرض عليهم، على وحدة وتنوع، التزام بعمارة كنيسة يلوَّن بها العالم ولا تتلون به. والعلاقة البناءة التي نرجوها “تناغمية” بين الكنيسة والطائفة، هي تلك التي تلون الكنيسة فيها الطائفة وليس العكس. والسؤال الفيصل هو، لماذا الارثوذكس هم بحاجة اليوم الى هيئة مدنية ولم تكن بالامس ضرورة لتوهجهم في المجتمع؟ فلقد كانوا، بدونها، في ماض زاهر، طائفة محورية، مركزية، متنوعة ومنتجة لنخبة وطنية، لا طائفية، متعددة الطاقة، تحاكي الواقع بجرأة وتقرأ المستقبل على ثقة وصلابة فكر، رائدة للفكر المسكوني على تجذر في الواقع المشرقي ومتقدمة في محاكاة الحداثة الغربية دون التنصل من اصالتها الشرقية والعربية. عندما يضعف المجتمع الكنسي، تقوى فيه “العصبية” الطائفية وتصبح الهوية الارثوذكسية، كما نسمع اليوم، هوية اجتماعية سياسية. وعندما تقوى الكنيسة روحيا ومؤسساتيا، تنضوي الطائفة تحت لوائها وتصبح اداة بارزة للتوهج الكنسي في المجتمع.
فالارثوذكس هم من العناصر الذين كانوا الاكثر فاعلية في النسيج المجتمعي اللبناني والمشرقي، جسوراً تعبر عليها الافكار السباقة، مقدمين من خلال مواهبهم العابرة للطوائف ونظرتهم المسكونية للامور، مساهمات جمّة وقيمة كانت مفصلية في ميادين عديدة في العالم العربي، كانوا سباقين في صياغة مفاهيم ونظم سياسية تتخطى الطائفية من اجل بناء مجتمعات عربية تقوى فيها القومية البناءة والمنفتحة. فهل اتى زمن الانكفاء الطائفي عندهم بحجة ان الكل الطائفيون؟ بدل ان يكونوا نموذجا سباقاً لكسر جسور الطائفية البغيضة المعششة في الجسم اللبناني كالسرطان القاتل حتماً؟ المشكلة اليوم ليست مشكلة حقوق ووظائف، بل مشكلة رؤية كنسية وخطة طريق سباقة وجريئة تنتج نخبة ارثوذكسية تحاكي تحديات الواقع وتنتج رجاء للمستقبل، تعيد الى الارثوذكس دورهم النموذجي، وتكون قارئة للتحولات الاساسية في المجتمعات العربية بشكل يتناسب مع جوهر الارثوذكس وتاريخهم وتقاليدهم ورؤيتهم البناءة لنهضة المجتمع.
المطلوب اليوم رفع الطائفة الى المقاييس الكنسية وليس تذويب الكنيسة بالطائفة. المطلوب تسطير دور رائد وشهادة فعالة للارثوذكس في لبنان والمشرق العربي. الكل اليوم، يصف الحالة الارثوذكسية كما يريد او كما يراها او كما يريد ان يراها! والكل معرض للنظرة الجزئية. وحده مؤتمر انطاكي موسع للكنيسة الام والمهاجر، يمكن ان يؤسس لقراءة شاملة، هي ضرورة ملحة لمواكبة التطورات في لبنان والتحولات في المنطقة. المطلوب اليوم مأسسة عمل الكنيسة وتطبيق صحيح لكنائسيات الشركة فيها، من خلال اطر منهجية للعمل المظهّر للوحدة الانطاكية. بدءا من جدلية “هل نحن طائفة أم كنيسة” وكيفية تداخلهما ايجابا، مروراً بقضية “محكومية” الكنيسة وتدبير امورها وادارة مؤسساتها ومقدراتها واوقافها، وتظهير دورها في المجتمع، وضرورة مراجعة قوانين الكنيسة لتتناغم اكثر مع التقليد و مقتضيات الرعاية في عالم اليوم وضرورات العلاقة “التشاركية” بين الاكليريكي والعلماني في الكنيسة، الى جوهر دورنا الوطني “التنويري” والمقدام في هذه المرحلة التاريخية بالذات حيث العالم العربي بحاجة الى تطوير نظم سياسية وقانونية لتدعيم وتنمية مفهومي “شراكة الحياة” و”شراكة المواطنة” بين المسلمين والمسيحيين، اللتين تضمنان قانونا وممارسة، التساوي الكلي بالحقوق والواجبات للجميع مع المحافظة على خصوصيات الجميع. فلنخرج من المنطق الطائفي الضيق الذي كان دائما بعيدا عن جهاد رجالاتنا الذين سطروا ورسموا بالقول والفعل وهجاً انطاكياً كبيرا.
دعوتنا اليوم، مراراً وتكراراً، للمجمع المقدس ان يخرج الكنيسة من “مقاربة التفصيل” الى “المقاربة الشاملة”، فيدعو للتحضير لمؤتمر ارثوذكسي انطاكي اكليريكي علماني عام يعقد في 2013 يؤسس للتوثب الانطاكي في المرحلة المقبلة.