“الهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان” تساؤلات وهواجس

mjoa Tuesday October 2, 2012 122

تسنّى لي أن أستمع إلى سعادة النّائب غسّان مخيبر، أحد مهندسيّ “الهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس”. كان يقدّمها مبشّرًا بها ومدافعًا عنها ومعتبرًا إيّاها الترياق الّذي يوحّد “الطائفة” وينمّيها ويؤمّن العدالة لأبنائها على صعيد الوظائف العامّة، ويجعلها فاعلة في بناء الحضارة وحياة المجتمع. لقد أثار هذا الطرح تساؤلات عديدة وتعليقات كثيرة. أبدِيت كلّها وها أنا أورد في الأسطر التالية جلّ ما تضمّنته .

الغاية من هذه الهيئة نبيلة وتنمّ عن إخلاص مقدّميها إذ يرغبون أن تؤول، من جهة، إلى إنصاف المواطنين الأرثوذكسيين في مجال الوظيفة العامّة وعدم التفريط بـ”حقوق الطائفة” بعد الإجحاف الكبير اللاّحق بهم في الواقع اليوم، ومن جهة ثانية إلى تمتين الوحدة الأرثوذكسيّة على صعيد الوطن وتنميتها ماديًّا وبشريًّا. ولكنّ الوسيلة المعتمدة لا تُجدي، وهي سيّئة بطبيعتها. وعندنا الغاية لا تبرّر الوسيلة. لا مكان للمكيافيليّة في حياة الكنيسة المستقيمة.

هذه “الهيئة” الوسيلة مؤذية لأنّها ترنو إلى سراب وحدة، إذ الوحدة الحقيقيّة في الكنيسة هي تلك الّتي تؤمّنها الكأس المقدّسة لـمّا تلملم الجميع المتفرّقين وتجعل منهم شعبًا واحدًا. وهي مؤذية لأنّها تزيد حمّى التمييز الطّائفيّ المقيت في لبنان. وهذا أمر، بطبيعته غريب عن جوهر الكنيسة الأرثوذكسيّة ومخالف لمسراها عبر التّاريخ العربيّ العامّ والتّاريخ اللبنانيّ بخاصّة.  

من هنا قد تؤمِّن هذه الهيئة مصلحةَ هذا أو ذاك من أبناء “الطّائفة”، ولكنّها بالتأكيد تشوّه وجه يسوع المسيح. بينما الواجب الكنسيّ يفرض علينا، كأبناء الله، أن نعكس وجه المسيح الحقيقيّ الّذي لا يفرّق بين النّاس. كما أنّ الشّهادة المطلوب أن نعلنها هي أن الكنيسة في، طبيعتها، لا تعرف الغيتويّة. إنّ مدى خدمتها العالم كلّة وأهله أجمعين والكون برمّته. ألا يعلم كلٌّ منّا أنّ التجسّد إنّما حصل لخلاص النّاس كلّهم ولينعموا بالعدالة والسّلام.

إنّ الهيئة المقترحة على المجمع الإنطاكي العتيد غير مجدية ولن تبلغ إلى الغاية الّتي رمى إليها مقترحوها. وذلك لأنّها تضمّ جيشًا من السّياسيين الحاليين والسّابقين وكبار الموظفين والعسكريين إلى جانب أكاديميين واقتصاديين وغيرهم، ونظرًا لوفرة الأعضاء وتنوّع انتماءاتهم ومشاربهم فستتحوّل حتمًا إلى حلبة تتصارع فيها المصالح، ويتم وسطها تناتش المكاسب.

وتجارب الطّوائف الأخرى، على مدى التّاريخ اللبناني، تثبت عدم جدوى هذه الهيئة لأنّ مثيلاتها في الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة أساءت أكثر ممّا نفعت، فقسّمتها ولم تمتّن وحدتها، وبقي الشعور بالغبن مسيطرًا ما لم يختصر مجلسًا من المجالس زعيمٌ سياسيّ قويّ نافذ. أمّا المجالس أو الهيئات بحدّ ذاتها فقد بقيت هياكل غير مجدية، تستغلّها الزّعامات والأحزاب السّياسيّة الطّائفيّة متى شاؤوا تثبيتًا لزعامتهم وشدًّا لعصبيّتهم.

يحدّد “الهيئة” المقترحة مقدموها ويقولون إنّها “في كنف الكنيسة وليست كنسيّة”. هذا التحديد يزيدنا ضبابيّة إذ كيف يكون أمرٌ في كنف الكنيسة وعو غير كنسيّ؟! لا شيء في الكنيسة غير كنسيّ. إنّها الوحدة بين الزمنيّات والرّوحيّات الّتي كانت لنا نعمة انسكبت علينا من فوق في سرّ التجسّد الإلهيّ، سرّ ملاقاة الله للمادّة وتجلّيه فيها. 

ما أتمنّاه أن يؤلّف الأرثوذكسيون، نوابًا وساسةً ومفكّرين، وبتشجيع كنيستهم وبركتها، خميرةَ خليّةٍ تضمّ عاملين من الطوائف كلّها، وتسعى هذه الخليّة إلى إحلال العدالة وتكافوء الفرص بين أبناء العائلات الرّوحيّة اللبنانيّة كافّة في مجالات الوظيفة العامّة. ولم نعرف في التّاريخ يومًا لم نلعب فيه دور الموفِّق والجامع. رجاؤنا أن نبلغ إلى الإبتكارِ فالنبوّةِ وأن نكفّ عن تقليد غيرنا.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share