… أخيرًا، صُرف النّظر عن مشروع القانون الأساسيّ لما سُمِّي بـ”الهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان”! لم يُطرَح في الدورة العاديّة للمجمع المقدّس (2 – 4 تشرين الأوّل)! حكمة الله، في غبطة البطريرك، جنّبتنا عواقب بحث وإقرار مشروع قاسٍ، ملتبس، وغير مسبوق في تاريخ الكرسي الأنطاكيّ. شكرًا لله وحمدًا، وشكرًا على النّظر الثّاقب لغبطته، ولأبوّته على النّحو الّذي أخرج به الموضوع من حيِّز التّداول، ووضع حدًّا للجدل الموجع بشأنه!
لم يقل غبطته الكثير، لكنّه أكّد أمورًا ثلاثة أساسيّة، مباشرة أو بصورة غير مباشرة:
أوّلاً. أنّ مسألة حقوق الطّائفة الأرثوذكسيّة، في لبنان، باقية في حدود اهتمام الهيئة الاستشاريّة العاملة برئاسته. يطّلع على الجاري من خلالها. يستأنس ويستنير بآراء أعضائها. ويوجِّه التحرّك المناسب من خلالها.
ثانيًا. أنّ الهيئة الاستشاريّة ليست مخوَّلة صلاحيّة إعداد مشاريع قوانين، في المستوى المجمعيّ، خاصّة بأيّ جسم طائفيّ أرثوذكسيّ. في هذا الإطار، ما سبق أن طُرح، في شأن “الهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان”، جرى تعاطيه كأفكار برسم التّداول، لا كمشروع قانون فعليّ برسم الإقرار.
ثالثًا. حِرصُ غبطته، في هذا الصّدد، على عدم الدّخول في سجالات كنائسانيّة (Ecclesiological)، رعائيّة الطّابع، ذات علاقة بالشّرع الكنسيّ، اتّقاء بلبلة الصّفّ الأرثوذكسيّ الدّاخليّ، خاصّة في هذا الوقت العصيب من تاريخ لبنان والمنطقة.
من جهتنا، نبدي أنّ الصّداميّة الحادّة، في الشّأن المعروض، وكذا الانتصاريّة (Triumphalism)، لا تليقان بمَن يتطارحون الموضوع لئلاّ نوجد متعرِّضين بالإساءة الشّخصيّة، أحدنا للآخر؛ فيما المبتغى أن نتقارع الحجّة الكنسيّة في المدى التّراثيّ، بروح المحبّة الأخويّة، حفظًا للإيمان القويم وترسيخًا لثباتنا فيه، في كلّ شأن.
من جهة أخرى، اللّقاء الّذي دعت إليه حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة واللّقاء الرّعائيّ الأرثوذكسيّ، يستأهل شكرًا لله على نجاحه.
ما حدث ذو مغزى كبير! الاستجابة العفويّة والتّداعي الفوري للاجتماع، بإزاء الخطر المداهم، الواعي أو غير الواعي، لدى الكثيرين، ودرءًا له، كما تمثّل في مشروع “الهيئة المدنيّة العامّة للرّوم الأرثوذكس في لبنان”، هذا التّداعي وتلك الاستجابة دلاّ على أنّ حسّ استقامة الرّأي، في حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة، ومَن يتعاطف ويتناغم معها وما يتفرّع منها، عميق ومرهَف! لا بدّ لنا، في مستوى شعب الله، من الإقرار والاعتراف بأنّ الحركة، رغم صعوباتها، هنا وثمّة، هي الجسم الكنسيّ الرّعائيّ الوحيد، في المدى الأنطاكيّ، الّذي تتمثّل فيه الروح الكنسيّة الإزائيّة، اليوم، بوضوح؛ تلك الرّوح الّتي طبعت شعب الله في الكنيسة الأرثوذكسيّة بعامّة، جيلاً بعد جيل، وجعلته الحافظ الأساس للأرثوذكسيّة واستقامة الرّأي، لا سيّما في الحقب الّتي تعرّضت فيها الكنيسة لسيول الهرطقات والأفكار الغريبة والتّيّارات النّافرة والتّجاوزات الطّارئة عليها عبر التّاريخ.
أمّا الرّوح الكنسيَّة الإزائيّة هذه فسِمةٌ روحيّة ونعمة. منطلقُها الوجدان الحيّ للأرثوذكسيّة التّراثيّة، وولاؤها الأوحد للرّبّ يسوع المسيح، في الرّوح والحقّ. الإزائيّة، في هذا الإطار، ديناميّة وجدانيّة لا يُستغنى عنها، ولا تُجيَّر، بالمطلق، لا لفرد ولا لهيئات مهما كانت بارزة، وإلاّ نفرِّط بالجامعيّة منحى، ونقع في محاباة الوجوه وعبادة الأشخاص وصنميّة المراكز! الّذين نلقاهم، اليوم، على أمانة لله، لا نتنازل لهم، عن دورنا التّعاونيّ والتّنقيحيّ في تسيير أمور الكنيسة، متخلّين عن إزائيّتنا، في روح الله، تجاههم، لئلاّ نستحيل، من ناحية، حزبًا من روحيّة أحزاب هذا الدّهر، ولئلاّ نتعاطاهم، من ناحية أخرى، كأنصاف آلهة! مَن نتوسّم فيه روح الله، هنا وثمّة، نتعامل معه بصحو أكبر وإزائيّة كاملة، حفظًا له وللكنيسة من تسلّط أهوائه عليه وعلى الكنيسة، ودرءًا لتجارب الغريب (إبليس) عنه وعنّا. في الكنيسة نتكامل وينقِّح أحدنا الآخر. نفعل ذلك ليبقى روح الله وحده هو المريد والفاعل فينا لأجل مسرّة الله، ولكي يبقى المسيح، والمسيح وحده، معنا، وفيما بيننا، القاطع الأخير باستقامة كلمة حقّ! الإزائيّة الرّوحيّة حفظٌ وإصلاحٌ وتكميل، أحدنا للآخر، وإلاّ نضلّ ونهلك! الإزائيّة علامة محبّتنا بعضنا للبعض الآخر في الحقّ، وبالأَولى لربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح له المجد!
الإزائيّة الرّوحيّة الكنسيّة هي المنظِّم الدّاخليّ العميق للحياة في كنيسة المسيح؛ وهي التّدبير الإلهيّ البشريّ الّذي يستنزل النّعمة الإلهيّة ويضخّها، في الجسد الواحد، لتنقية وتغذية سائر الأعضاء بالحياة المنبثّة فينا، بالنّعمة الّتي من فوق!
وإذا ما كان لمسرى هذه الإزائيّة أن يكون المحبّةَ لا المحاباة، فلا يجوز لحاضنيها أن يكفّوا عن العمل، باجتهاد، على صعيدين:
– صعيد التّنقية الذّاتيّة المتواضعة والمتواترة، لئلاّ نقع في الجفاف الرّوحيّ وتنضب ينابيعنا الدّاخليّة.
– صعيد التّناسي المتواتر لما أنجزناه، نظير النّحلة النّشطة الممتدّة إلى الأمام، والعمل بصمت ومحبّة، كعبيد بطّالين، على حفظ الأمانة للسّيّد، وعلى التّملّؤ من روح الله وإشاعة روح الإنجيل؛ وإلاّ نقع، لا محالة، في الانتفاخيّة، فنفرغ من حرارة الرّوح وتغادرنا نعمة الله. إذ ذاك نجدنا نغرق في هموم البيت، فنستكبر ونتلهّى بالقشور وتثور فينا روح تنازع السّلطة، وينقسم بعضنا على البعض الآخر وينبت شوك الأهواء والعلّيق فينا، وفيما بيننا، فيمسي التّغنّي بأمجاد الماضي ديدننا، ولا يشاء أحدنا، من بعد، أن يقاوم خطيئة نفسه بجدّيّة، فنتبلّد ولا نعود نحرِّك ساكنًا بإزاء المخاطر الواقعة في الكنيسة وعليها، ولا نعود نبالي بأمور خلاصنا؛ وينقلب، لدينا، سلّم الأوّليّات، فتمسي كراماتنا وأمجادنا وسلطاتنا هي معيار النّهضة عوض حفظ الوصيّة الإلهيّة والصّلاة والصّوم والغيرة على بيت الله.
ما حدث بالأمس نرجوه عودة ثابتة، لا طفرة عابرة، إلى المحبّة الأولى، وإلى إزائيّة روحيّة حقّانيّة متواترة تنهل من ينابيع التّوبة والتّواضع وتنأى عن انتفاخيّة تخدِّر وانتصاريّة تجوِّف ونزاعيّة تُضني. لا حقّ لنا ولا يليق بنا أن نعود، بعد اليوم، إلى غفلة أهل الكهف! ما حدث أنّ الكنيسة والمجمع المقدّس، بطريقة أو بأخرى، عبَّرا عن حاجتهما الدّاخليّة إلى مشاركة شعب الله، كلّ شعب الله، ولكنْ، على نحو رصين ومحبّ ومسؤول، في صون الأمانة وحفظ التّراث وإزكاء روح الشّهادة، فيما بيننا، وفي هذه الدّيار، وفي العالم كلّه، للرّبّ يسوع ولاستقامة الرّأي. لو لم تتحرّك الحركة لحدث ما لا تُحمَد عاقبته! الإزائيّة نعمة من فوق وموهبة وتكليف من العليّ! لا نأخذنّ دور أحد، ولكنْ لا يلغينّ ولا يصادرنّ أحدٌ دورنا! لا ينفحنا أحدٌ الإزائيّة منّة منه، بل نتعاطاها، بصورة تلقائيّة، حفظًا لأنفسنا وإيّاه من الشّطط، وكنيسةِ المسيح من التّجريح، كمؤشّر حياة جديدة تنمو، لتبقى العروسُ بهيّةً ويبقى لنا فرحٌ يدوم، وخلاصٌ يمتدّ ويزهر بهاءً إلى حياة أبديّة!