انه الاعتداء الثاني في اقل من شهر. وقبله بأشهر قليلة، اعتداءان مماثلان ايضا… وظاهرة متفاقمة تتمثل في البصق على رهبان مسيحيين في القدس واهاناتهم والتهجم عليهم. حصيلة “جباية الثمن” التي يرفع لواءها متطرفون يهود لا تزال تتراكم كل يوم. وتجاهها، لم يعد يمكن مسؤولون كنسيون يؤثرون عادة الصمت سوى التكلم والشكوى.
قلق وخوف يخيّمان على مسيحيي الاراضي المقدسة من متطرفين يهود، “معتدين ومخربين”، في ظل عدم فاعلية المواقف والتدابير الاسرائيلية… في مقابل “ضغط” اسلامي يثقل عليهم في الاراضي الفلسطينية.
حتى اليوم، لا موقوفون في تلك الاعتداءات. والقلق الذي يبديه رئيس الكنيسة الفرنسيسكانية الاب بيارباتيستا بيتسابالا، حامل لقب “كوستوس” و”راعي الاراضي المقدسة”، هو تجاه العلاقات بين اليهود والمسيحيين، و”اللوم يمكن أن يقع على الجميع”، يقول في لقاء معه (أ.ب). “أعتقد أن الجو الرئيسي هو الجهل”. ولأن السكان المسيحيين المحليين قليلون، “فلا وجود لنا بالنسبة الى الاكثرية. لديهم أولويات أخرى. ومن جهة ثانية، ربما لم نستثمر، كأقلية، ما يكفي من الطاقة والمبادرات”، للوصول إلى اليهود الإسرائيليين.
في 2 تشرين الاول 2012، رشّ متطرفون يهود باب مدخل دير القديس فرنسيس التابع للرهبان الفرنسيسكان في جبل صهيون في القدس بكتابات بالعبرية مسيئة للمسيح، مع شعار “جباية الثمن”. ومن نحو شهر (4 ايلول)، استهدف اعتداء آخر ديراً معروفاً للرهبان الترابيست في اللطرون. وقبل ذلك، كان دور كل من دير وادي الصليب والكنيسة المعمدانية في القدس الغربية (شباط).
في تلك الاعتداءات، تحوم الشبهات حول مستوطنين يهود متطرفين في الضفة الغربية أو أنصارهم، والذين يعتقد أنهم وراء سلسلة هجمات على مساجد ومواقع مسيحية، وحتى على ممتلكات للجيش الاسرائيلي خلال الاعوام الماضية، احتجاجا على التحركات المعادية لاقامة المستوطنات. على سبيل المثال، اعتدي على دير اللطرون بعد مدة وجيزة على اخلاء السلطات مستوطنة غير قانونية في الضفة الغربية.
لكن يبقى غير مفهوم سبب استهداف مواقع مسيحية. وايا تكن دوافع تلك الاعتداءات، فانها “اعمال تعصب لا يمكن تحملها”، يقول مسؤولون كبار في الكنيسة الكاثوليكية، بمن فيهم بيتسابالا، معبرين في بيان نادر عن “استياء عميق” تجاهها، وعن “قلق تجاه التعليم الذي يتلقاه الشبان في مدارس معينة، حيث يتم تدريس التعصب والازدراء”، داعين الى “تغيير النظام التعليمي”، والى ان يتخذ القادة الاسرائيليون “الإجراءات اللازمة”.
يقدر عدد المواطنين المسيحيين في اسرائيل بنحو 155 الفا، أي أقل من 2% من مجموع السكان الـ7 ملايين و900 الف، ثلاثة أرباعهم من العرب، والآخرون وصلوا خلال موجات الهجرة الروسية في الاعوام الـ20 الماضية، ويتوزع هؤلاء ما بين الكاثوليك والأرثوذكس… ما ساهم بابقاء عدد المسيحيين على حاله تقريبا. ويضاف الى هؤلاء، عشرات آلاف العمال الأجانب والمهاجرين الأفارقة المسيحيين المقيمين في إسرائيل.
في الارض المقدسة، التي انبثقت منها المسيحية، يبدو وضع المسيحيين هشاً. ففي الضفة الغربية، تراجع المسيحيون على مر الاعوام، ليصل عددهم اليوم الى نحو 50 الفا (أ.ب)، اي اقل من 3% من مجموع السكان، وذلك نتيجة تدني نسبة الولادات لديهم وارتفاع الهجرة في صفوفهم بحثا عن نوعية حياة افضل. وعلى سبيل المثال، فان ثلث سكان بيت لحم التي ولد فيها المسيح مسيحيون، اي بتراجع نسبته 75% عما كان عليه قبل نصف قرن. والتراجع مؤثر، يعكس تضعضع المسيحيين في ارض اجدادهم، ومعاناتهم شتى انواع الضغوط الاقتصادية والدينية والاجتماعية. وما تمزيق عضو الكنيست عن حزب الاتحاد القومي اليميني المتطرف المعارض ميكايل بن آري، امام الكاميرات في تموز الماضي، نسخة من الانجيل مرسلة من جمعية تبشيرية مسيحية، وقوله “ان هذا الكتاب الحقير حفز قتل ملايين اليهود خلال محاكم التفتيش… ومرسليه يجب ان يكونوا في مزبلة التاريخ”، سوى صب للزيت على نار هذه الضغوط على المسيحيين. فرغم ان ارسال نسخة الانجيل “قد يكون استفزازيا”، في رأي بيتسابالا، غير انه “لا يمكن تمزيقها امام الكاميرات والالقاء بها في سلة المهملات والمطالبة بحظر الكتاب في البلاد. هذا الامر لا يقبله اي مؤمن مسيحي”. فكيف لو كان ايضاً ممزقها عضواً في الكنيست وممثلاً للمؤسسات الاسرائيلية؟
موقف بيتسابالا (47 عاما) له وقع كبير لعلاقاته القوية باسرائيل (أ.ب). فهو يعيش هناك من عقدين، ويتكلم العبرية، وكان عضوا في هيئة التدريس في الجامعة العبرية في القدس… ويدرك جيدا ان ظاهرة الاعتداءات “لا تعكس موقف غالبية الاسرائيليين”. وفي طليعتهم الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز الذي ندد “بهذه الافعال التي تتعارض مع القيم والاخلاق اليهودية وتضر بدولة اسرائيل في شكل كبير”. كذلك، صدرت مواقف استنكار من مسؤولين في الشرطة وسياسيين اسرائيليين والسلطات الحاخامية العليا… وكل هذه الاستنكارات يرحب بها بيتسابالا، “لكن ذلك لا يكفي”، على قوله، “اذ ان المهم ليس التنديد فحسب، انما ايضا العمل واتخاذ التدابير لوقف هذه الظاهرة”.
في ماضي العلاقات اليهودية- المسيحية، وتحديدا الكاثوليكية، تاريخ مشحون وصعب. ارساء العلاقات الديبلوماسية بين اسرائيل والفاتيكان لا يزيد عن 18 عاما، في وقت لا يزال الحوار الديني حديث العهد. صعوبات هذه العلاقة يدركها بيتسابالا، لكنه يرى في الوقت عينه ان الاسرائيليين لديهم فهم قليل للمسيحية الحديثة، او “لواقع المسحيين في البلاد”.
في مقابل هذه الضغوط اليهودية، ثمة ضغوط اخرى. ففي قطاع غزة، الذي تسيطر عليه حركة “حماس” الاسلامية، يبدو وضع المسيحيين اكثر تزعزعا. هناك يعيش اقل من 3 آلاف مسيحي وسط 1,7 مليون مسلم، علما ان عددهم تقلص بسرعة في الاعوام الاخيرة، بسبب اضطرابات في القطاع (أ.ب). وتحضر في البال حادثة طعن ناشطة مسيحية حتى الموت، بعد تسلم “حماس” زمام الامور العام 2007. كانت تلك السيدة تدير المكتبة المسيحية الوحيدة في القطاع. ولم يتم القاء القبض على قاتلها حتى اليوم.
في الاعوام الماضية، تعرضت ايضا مؤسسات مسيحية عدة للاعتداء. وحامت الشبهات حول مسلمين متطرفين. وفي حالين على الاقل، منها حرق مقر جمعية الشبان المسيحية، القي القبض على المعتدين وحكم عليهم بالسجن. وتنقل وكالة “الاسوشيتد برس” عن بيتسابالا ان حماس كفلت ان يمارس المسيحيون ايمانهم بحرية. ورغم ذلك، فان الجو ليس مريحا. ويقول: “يشعر المرء بضغط النظام الاسلامي في المجتمع والحياة”.