في الكتاب المقدّس كلام على غضب الله، كما في رومية 1: 18، وعلى حقده، كما في مزمور 102: 9، وعلى انتقامه، كما في عبرانيّين 10: 30.
أيُعقَل أن يُنسَب إلى الله غضبٌ وحقد وانتقام؟! أليس أنّ الله محبّة؟ كيف للمحبّة أن تغضب، وقد قال عنها الرّسول المصطفى إنّها “لا تحتدّ” (1 كورنثوس 13: 5)؟! وكيف لها أن تحقد، وهي “لا تظنّ السّوء” (الرّسالة عينها)؟! ثمّ كيف لها أن تنتقم، وهي لا تطلب ما لنفسها ولا تُقبِّح ولا تفرح بالإثم (الرّسالة عينها)؟!
علينا أن ندرك، أوّلاً، أنّ الخبرات الّتي هي وراء اللّغة الّتي تعبِّر عمّا لله، في الكتاب المقدّس، هي خبرات بشريّة. فالغضب، أساسًا، يُعزى للبشر، وكذا الحقد والانتقام. أمّا الله فبلا هوى. فمتى نُسِبَ الغضب والحقد والانتقام إلى الله، فإنّها تكون مجرّد استعارات. هذه، بالأجنبيّة، تعرف بتسمية Anthropomorphism، الّتي تعني ما هو بشريّ في الشّكل. إذًا متى تكلّمنا على غضب الله أو حقده أو انتقامه فإنّنا لا نقصد أنّ الله يغضب كما يغضب البشر أو يحقدون أو ينتقمون، بل نعبِّر عمّا هو، في ذاته، مختلف عمّا للنّاس ولا ينتمي إلى خبرة البشر، وذلك باستعمال ألفاظ تشير إلى خبرات، لدينا، هي أقرب ما تكون، في ظاهرها، في شكلها، كما تتراءى لنا، إلى ما يستبين لناظرينا من تجلّيات إلهيّة. هذا يعني، بكلام آخر، أنّ لغضب الله، وكذلك لحقده وانتقامه، هيئة ما للإنسان، لكن لها مضمونًا آخر، تمامًا، عمّا لخبرات الإنسان في شأنها.
في خلفيّة الله المحبّة، ماذا يعني أنّ الله يغضب أو يحقد أو ينتقم؟
في العهد القديم، أخذت الصّورة تنجلي، تدريجًا، لا سيّما في الأنبياء! في العهد الجديد، انجلت تمامًا!
الرّبّ يسوع، ابن الله المتجسِّد، لمّا صنع سوطًا من حبال وطرد باعة البقر والغنم والحمام والصّيارف، كان غاضبًا (يوحنّا 2: 14 – 16)! وكذلك لمّا قال لتلاميذه: “أيّها الجيل غير المؤمن، الملتوي، إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟” (متّى 17: 17)! الرّبّ يسوع، كإنسان، إذًا، غضب. ولكنْ، هل يعني هذا أنّ الغضب من طبيعة الإنسان؟ أجل وكلاّ. أجل، طالما الرّبّ يسوع غضِب وهو بلا خطيئة. الغضب، أصلاً، هبة طبيعيّة. لِمَ أُعطيت للإنسان؟ لغرضَين: غيرةً على الحقّ الإلهيّ. هذا ظهر في موقف الرّبّ يسوع من الباعة والصّيارف في الهيكل. والغرض الثّاني هو التّمسّك بالحقّ الإلهيّ وردّ الباطل. وهذا ظهر في موقف الرّبّ يسوع من إبليس في التّجربة في البرّيّة (متّى 4)، لمّا نَهَر إبليس: “اذهب يا شيطان! لأنّه مكتوب: للرّبّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد”! وكلاّ، الغضب، في واقع الإنسان، لم يعد طبيعيًّا. لا عاد الإنسان في وارد الغيرة على الحقِّ الإلهيّ، ولا في وارد حفظ نفسه من الباطل والإقامة في الحقّ الإلهيّ. هذا جعله خاضعًا لما نسمّيه: حال السّقوط؛ كما جعله مقيمًا في الخطيئة، أي في غربة عن الحق الإلهيّ. الغضب، بالأحرى، صار قوّة للخطيئة!
بِمَ امتاز غضب الرّبّ يسوع عن غضب الإنسان السّاقط؟ بأمرين أساسيَّين:
الأَمر الأوّل : غضبُ الرّبّ يسوع كان مَشوبًا بالحزن على غلاظة قلوب النّاس، من جهة ما لله. هذا واضح، بخاصّة، في الإصحاح 3 من إنجيل مرقص. دخل يسوع المجمع وكان هناك رجل يده يابسة. كان اليوم سبتًا. سأل يسوع: “هل يحلّ الإبراء في السّبت…؟ فسكتوا. فنظر حوله إليهم بغضب، حزينًا على غلاظة قلوبهم” (3: 5)! الغضب، والحزن الإلهيّ، في خبرة السّقوط، لا يجتمعان. طبعًا، مَن يغضب يكون حزينًا، في آن، ولكنْ على ما لنفسه. أمّا حزنُ الرّبّ يسوع فكان نابعًا من محبّته للنّاس وغيرته على خلاصهم. لم يطلب يسوع ما لنفسه، بل ما للنّاس. حَزِن لأنّه جاء ليخلِّص ما قد هلك فوجد الهالكين غير مبالين بخلاص أنفسهم. ألفاهم مقاوِمين لِما هو لخيرهم! الغضب الطّبيعيّ عشير الحزن المحبّ، حيث تكون الخطيئة، فيما غضب السّقوط لصيقٌ بمحبّة الذّات!
الأَمر الثّاني : غضبُ الله هو للتّأديب وليس لأذيّة أحد. لذا قيل: “أدبًا أدّبني الرّبّ وإلى الموت لم يسلّمني” (مزمور 117: 18). وقيل أيضًا: “إنّي لا أُسَرّ بموت الشّرّير، بل بأن يرجع الشّرّير عن طريقه ويحيا” (حزقيال 33: 11). التّأديب تدبير إلهيّ شفائيّ لإصلاح البنين ومعالجتهم. لذا كان التّأديب من علامات محبّة الله. أَلَمْ تقل الأمثال: “يا ابني، لا تحتقر تأديب الرّبّ ولا تكره توبيخه، لأنّ الّذي يحبّه الرّبّ يؤدّبه، وكأب بابن يُسَرّ به” (3: 11 – 12)؟ على هذا يبدي مرنِّم المزمور 17 أنّ التّأديب يُعين الإنسان على مقاومة خطايا نفسه والتّطهّر منها. لذا قال في مناجاة ربّه: “تأديبُك أيّدني إلى النّهاية. تأديبك يدرّبني… سأقتفي أعدائي [أي عمليًّا، خطاياي] فأدركهم. ولا أرجعنّ حتّى أُفنيَهم…” (17: 35، 37)!
والحديث عن الغضب يأتي بنا إلى الحديث عن الحقد. هنا، أيضًا، الحقد البشريّ شيء والحقد الإلهيّ شيء آخر. الحقد البشريّ هو ذكرى الإساءة إلى مَن وقعت عليه، راسخةً في قلبه، مقترنةً بشحنة غضبيّة قويّة رابضة لديه، ومستعدّةً للانتقام، في الوقت المناسب، ممّن تسبَّب بالإساءة، استعادةً للكرامة الجريح للمُساء إليه. هذا فيما الحقد الإلهيّ هو ذكرى إساءة مَن أساء إلى نفسه، راسخةً في قلب الله، مقترنةً بِغَيرة شفائيّة محبّيّة كاملة، حاضرةٍ، أبدًا، لديه، وعاملةٍ، في كلّ حين، على خلاص المسيء، وعلى استعادته، بالتّوبة، إلى محبّة الله. في الحقد البشريّ، الإنسان يستهدف الإنسان. في الحقد الإلهيّ، الله يستهدف ما قَطع الإنسانَ عن ربّه، ومن ثمّ عن قريبه. الحقد البشريّ ظلاميّ يطيح محبّة الإنسان للإنسان. الحقد الإلهيّ نورانيّ يلتمس الإطاحة بظلاميّة الخطيئة، في النّفس البشريّة، بالإيمان بابن الله والتّوبة إلى الله. العدو، في الحقد البشريّ، هو الخاطئ. العدو، في الحقد الإلهيّ، هو الخطيئة، ولو صُوِّرت مشخصَنة! العنف، في الحقد البشريّ، يَقتل. العنف، في الحقد الإلهيّ، يُحيي. القوّة الفاعلة، في الحقد البشريّ، هي قوّة عشق الذّات. القوّة الفاعلة، في الحقد الإلهيّ، هي قوّة محبّة الله. الحقد البشريّ انحراف عن الطّبيعة البشريّة. الحقد الإلهيّ تدبير لتقويم هذا الانحراف!
الحقد البشريّ، إن لم يتب صاحبُه، يكون إلى الأبد. والحقد الإلهيّ، إن تاب الإنسان الخاطئ، يكون إلى حين توبته، إلى أن يرجع فيحيا!
وهذا يأتي بنا، هنا أيضًا، إلى الكلام على الانتقام. الانتقام البشريّ هو التّشفّي، أن يطلب المرء شفاء غليله بما لا يَشفي، وأن يلتمس إطفاء غيظه بما يُشعله. المتعة الّتي يحصّلها المنتقِم، متى انتقم لنفسه، هي متعة مريضة منحرفة لإهلاك مَن تسبَّب في تضيّقه! الانتقام البشريّ محبّة للموت، اغتذاء بالموت. الانتقام البشريّ، في العمق، اشتهاء للموت، لا فقط لموت الآخرين، بل لمَن يكتنز شهوة موت الآخرين أيضًا! الانتقام البشريّ وجع كيانيّ للموت! الانتقام البشريّ، خِلوًا من التّوبة إلى الله، موتٌ إلى الأبد! الحقد، والحال هذه، لا ما يطفِئه، والانتقام لا قرار له! جوعٌ إلى الموت، لا ما يشبعه! والمنتقِم لنفسه يذوق طعم الموت الأبديّ منذ الآن!
أمّا الانتقام الإلهيّ فسَعيٌ لا ينام إلى تحرير الإنسان ممّا يستأسر قلبه للخطيئة والموت. إذا لم يجد الإنسان السّاقط ما يعبِّر به عن تدبير الله، في هذا الاتّجاه، غير الانتقام، لأنّ الانتقام في قلب الإنسان الخاطئ جبّ عميق، فالانتقام الإلهيّ – والأجدر تسميته “لهفُ الله على خلاص البشريّة” – أعمقُ وأحدّ وأشدّ وأعنف، بما لا يقاس، من كلّ انتقام بشريّ! الانتقام الإلهيّ ينزل، بلا كلل، إلى أعمق أعماق النّفس البشريّة، ليُشيع فيها، في مواتها، حسبما تيسَّر له من تعاون في النّفس، وبمحبّة لا تعرف الحدود، حياةً وإحياءً!
دونكم هذه الصّورة عن الانتقام الإلهيّ:
أسقفان، واحد غنيّ مقتدر، وآخر فقير مغمور. كان الغنيّ حاقدًا، لسبب من الأسباب، على الفقير. عبثًا حاول الفقير مصالحة الغنيّ! لم يترك فرصة إلاّ انتهزها للتقرّب منه وإصلاح ذات البين معه، فلم ينجح! وحلّ الفصح! فقال الفقير لكهنته: اليوم يوم الانتقام! هيّا بنا ننتقم من عدوّنا! فتعجّبوا ولم يفهموا! قال: “اتبعوني وسترون”! فجاؤوا إلى الأسقف الغنيّ الحاقد، وكان في الكنيسة، يتهيّأ للاحتفال بالعيد. فلمّا حضروا لديه سجد الأسقف الفقير وكهنته إلى الأرض بدموع وصرخوا: “سامحنا يا أبانا! فلقد أخطأنا إلى السّماء وأمامك! لا نحتفلنّ بالفصح، اليوم، ما لم تصفح عن خطايا عبيدك!!!” فنزل المشهد على الأسقف الغنيّ نزول الصّاعقة، ونخسَ روحُ الرّبّ قلبَه، فانفجر باكيًا، ونزل، ونزل معه كهنته، إلى الأرض، وهو يردّد بنشيج: لا بل أنت سامحني يا أخي على قسوة قلبي وانعدام إحساسي وعِظَم غروري! استمرّ المشهد وقتًا والجميع في بكاء وفرح! ثمّ نهضوا وقبّلوا أحدهم الآخر، وقاموا إلى العيد!
فيما تُمعن البشريّة في تأليه غضبها وحقدها وانتقامها، وتشوِّه صورة ربِّها، متعاطيةً إيّاه قاتولاً، يبقى المصلوبُ مقفَلاً عليه في قبور قلوب النّاس الصّلدة القاسية، إلى أن تعود، بالتّوبة والرّحمة والدّموع، لَحْميّة… نحو النور!
ويُسأل، بعدُ، عن عقاب البشريّة. أمّا العقاب فآتٍ، ولكنْ ليس من الله، بل من التّخلّي عن الله! الله لا يُعاقب أحدًا! حين يمتلئ كأس الإثم في العالم يحلّ عقابه! جحيمنا آثامنا! العالم مستمرّ بنعمة الله ولو لم يكن مستأهِلاً لها! ولكنْ متى حارب العالمُ الله إلى المنتهى، ولمّا يشأ أن يخلص بالنّعمة، فإنّ العالم، إذ ذاك، يُحرَم البَرَكة، ويُترك لآثامه، فتصير آثامُه عقابَه! ويكون أنّ ما زرعه الإنسان إيّاه يحصد! أمّا الصّدّيقون فيحفظهم الله بنعمته كما حفظ الفتية الثّلاثة في الأتّون!