الحركة وجوهًا

الأب جورج مسّوح Tuesday October 30, 2012 265

“وجوه من نور” (الأب إيليّا متري)

المؤمنون أيقونات من لحم ودم. هذا ما يقرّه تقليدنا الكنسيّ الأرثوذكسيّ الحيّ. فحين يبخّر الكاهن الكنيسة، يبخّر المؤمنين والأيقونات باعتبارهما مقدّسين، المؤمنين بالقوّة، والأيقونات بالفعل. وبكلام آخر، المؤمنون، وهم القائمون على الرجاء، قدّيسون أحياء، جماعةٌ تائبة تائقة إلى لقاء ربّها والاتّحاد به في الأسرار والعبادات والحياة اليوميّة. ويكتمل هذا الاتّحاد نهائيًّا في الملكوت السماويّ متّى حلّ الأوان.

لم تفصل الكنيسة ما بين القدّاس الإلهيّ وسرّ الأخ، وفق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407). القدّاس يمتدّ إلى ما بعد القدّاس عبر عيش الإنجيل ومقتضياته في العالم. فالمسيح حاضر ليس في العبادات وحسب، بل في الإخوة الذين نمارس تجاههم ما فعله السامريّ الصالح بالذي وقع بين أيدي اللصوص. هنا لا بدّ من التذكير بأنّ أحد معايير الدينونة جوابنا عن سؤال الربّ: “ماذا فعلتم بإخوتي هؤلاء الصغار؟”.

القدّاس الإلهيّ لا يقتصر على سماع الإنجيل، أو على المشاركة في القدسات وحسب، ولا تقتصر العبادات على توسّل الرحمة الإلهيّة وحسب… العبادات كلّها، بما فيها القدّاس، هي مكان نلتقي فيها بالوجوه التي نحن مدعوّون إلى الالتزام بها وتعهّدها عبر مساندتها في ظروفها الصعبة، في فقرها وعوزها ومرضها. هي المكان الذي فيه نمارس فعل المحبّة والرحمة، والذي بدونه لا يمكن الكلام على اتّحاد حقيقيّ بالربّ. فمجرّد المناولة من دون فعل المحبّة لا يجعلها مكتملة، ويكون حينئذ اتّحادنا بالربّ ناقصًا.

لكن، ثمّة وجوه، نلتقي بها في القدّاس، تجعلنا آليًّا في حضرة الله. تلك الوجوه التي حين نراها ترمينا في حضرة القدّيسين والصالحين والأبرار. تلك الوجوه التي نتعلّم منها معنى الالتصاق المتين بالكلمة الإلهيّة يحيونها ويشهدون لها بالقول وبالفعل. تلك الوجوه التي نستطيع القول عنها لمـَن يتحدّانا: “تعالَ وانظر” كيف يحيا المسيحيّون ويحوّلون إنجيلهم من حروف إلى حياة تعبق بالقداسة. تلك الوجوه الأيقونات التي “توجد وتحيا وتتحرّك” عبر حضور الربّ فيها.

ما يميّز المسيحيّة عن سواها من الديانات كونها ديانة وجه، هو وجه الربّ يسوع. فلا وجه للربّ في اليهوديّة ولا في الإسلام. ووجه يسوع المسيح لا ينحصر في ما تقوله لنا الأيقونات، فهو نراه في كلّ وجه خُلق على صورة اللَّه ومثاله. الفنّ الكنسيّ المقدّس لا يحتكر وجه يسوع ولا يزعم الحصريّة والملكيّة الخاصّة به. ولكنّ وجهه يفرضه علينا بعض الوجوه التي نراها هنا وثمّة، فلا يسعنا إنكار حضوره فيها.

لا ريب في أنّ كلاًّ منّا التقى بأحد هذه الوجوه، أو ببعضها، في رعيّته أو في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. فالتزامنا الكنسيّ أخذناه منهم، وعليهم تتلمذنا، وكانوا لنا قدوة وأسوة حسنة نقتفي خطاهم ونسلك على هديها. هؤلاء لم يعلّمونا فقط العقيدة والصلاة وأنماط التفسير وتاريخ الكنيسة وسير القدّيسين… بل كرّسوا أنفسهم وجلّ وقتهم للاهتمام بتربيتنا وتنشئتنا على الكلمة المحيية، فصحّ فيهم قول الرسول: “اقتدوا بي كما أنا بالمسيح”.

المسيحيّة وجهٌ، وجه الربّ يسوع الذي نراه في خلاّنه. فكيف نهجر هذه الوجوه؟ هذه الأيقونات الحيّة والأناجيل الناطقة؟ فإذا كنتُ أريد أن أورث لأبنائي وبناتي وإخوتي في الايمان أفضل ما عندي، لأهديتهم إحدى تلك الأيقونات، يحيون معها، يسمعونها، يسائلونها، يسترشدون بها. لما كنت حرمتهم أجمل ما أملك، من أشخاص منحوني الغالي والنفيس كي أحيا بمحبّتهم. كيف أحرمهم ممّن رأيته كافرًا بنفسه وحاملاً صليب الربّ واهبًا كلّ مواهبه في سبيل الكنيسة وأبنائها؟

نحن، الذين نشّأتنا الحركة، حركة النهضة الكنسيّة، لا ننسى أنّنا نشأنا على أيدي أشخاص كانوا بدورهم يدَي الروح القدس. وما وهبونا إيّاه لمجد الربّ وكنيسته نحن مسؤولون عن تسليمه أمانةً للأجيال الطالعة. لم يهبونا ما وهبونا إيّاه لنبقيه مأسورًا فينا، أو لنقتله بأنانا المتضخّمة. وإنّه لتقصير عظيم أن ندع مَن نحن مساءلون عنهم يربون بعيدًا عمّن تربّينا عليهم. هي وجوه أيقونات لا نكرّمها بالكلام المعسول أو بحديث الذكريات، بل بالعيش معها، أجل بالعيش معها!

 

مجلة النور، العدد السابع 2012، ص 338-339

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share