في الكلمة والإيقونة

mjoa Wednesday November 7, 2012 119

انظر كيف تقرأ!  انظر كيف تسمع!
في كِلا الحالَين الموضوع الكلمة. وجناحا الكلمة الحبّ والحقّ. فإن قرأتَ أو سمعتَ بحبّ وللحبّ، وطلبت الحقّ، فإنّك تكون قد قرأت وسمعت حسنًا؛ وإلاّ كانت الكلمة لديك نقضًا للآخر أو تجاهلاً، ومن ثمّ التماسًا للباطل؛ إذ ذاك تقرأ رديئًا وتسمع رديئًا. نقضُ الآخر أو تجاهله، هنا، إن هو سوى تأكيد لإثبات الذّات. مَن لا ينطلق من حبّ الذّات مستحيل عليه ألاّ يطلب الحبّ. الحبّ شأن تلقائيّ، من نسيج الطّبيعة البشريّة. ما هو مناف للطّبيعة هو عشق الذّات.

إذًا، بحبّ الذّات تتشوَّه الطّبيعة البشريّة. لذا كان الحبُّ المرمى الطّبيعيّ للكلمة، وإلاّ كانت الكلمة مدمِّرة تلغي. لا حياد في الكلمة! ما لا ينفع منها يؤذي! ليست الكلمة، أساسًا، لنقل المعلومات. طبعًا، في تعاطي الكلمة معلومات، لكنّ المعلومات ليست مرمى الكلمة. مرماها الحبّ. في كلّ حال، المعلومة حمّالة حبّ! أكلِّمك أو أسمعك، واستطرادًا أقرأك، لأنّي أحبّك. همّي أن أبنيك وأن أنبني بك. همّي أن أدخل وإيّاك في وصال في مستوى الكيان. همّي أن أَفْرَح بك وأن أُفرِّح قلبك. همّي أن أشترك وإيّاك في خبز الكلمة لنتغذّى، وفي دَسَم الكلمة لنتعزّى، وفي نور الكلمة لنستنير معًا. أنا وأنت، في الحبّ، مشروع خلقٍٍ واحد مشترك يكتمل. ومرمى الكلمة، في آن، الحقّ. الحبّ قائم في الحقّ، وقِبلة الحقِّ الحبُّ. لذا، إذا أحببتَ أقمتَ في الحقّ، وإذا التمستَ الحقّ وجدتُكَ تُحبب تلقاءً. الحبّ يقول لك الحقّ عفوًا، والحقّ يصبّ في الحبّ حتمًا. الحبّ في الحقّ، والحقّ للحبّ. خارج الحبّ ليس حقّ، ومن دون الحقّ لا حبّ.

     لذا، كانت الكلمة عطيَّة فائقة، لا بل أعظمَ العطيّة! ولذا، تَسمَّى ابنُ الله الكلمة. ولو كانت الكلمة لتُشير إلى الفكر، فإنّها، إلهيًّا، لا تحكي أفكار العقل، بل افكارُ العقل تحكيها؛ وليست، من ثم، عملَ الدّماغ، ومدى المنطق والاستدلال والاستدراك؛ بل تحكي أفكار القلب والكيان. القول عن الله إنّه عقل، ولو الكلّيّ، انحرافٌ وإسقاطٌ بشريّ! إن كان لنا أن نستدلّ بما للإنسان لقلنا: الله قلب! لذا قيل: “الله محبّة”! العقل لا يحبّ! ولأنّ الله قلب وفوق القلب يَعرف كلَّ شيء! لا يحتاج الله إلى عقل ليعرف. معرفة الحبّ في الحقّ أبعد مدىً وأشمل نطاقًا، بما لا يقاس، من معرفة العقل. لا حدود للمعرفة بالقلب! العقل مُعطى للإنسان لأنّه ينتمي إلى العالم المادّيّ، الهيولانيّ. عقلنا ينتمي إلى ترابيّة الأرض وإلى نسيج قلب الإنسان وكيانه في آن معًا. أُعطي لنا كوسيط بين المحسوسات وغير المحسوسات. لهذا لا نتعاطى الإلهيّات عقليًّا، لئلاّ يمسي الله موضوعًا عقلانيًّا فنقتله، إذ نحيله إلى طبيعة مختلقة تجمع المحسوس إلى غير المحسوس. لكنّنا نعبِّر، عقليًّا، عمّا لله لأنّ العقل من طبيعتنا البشريّة. نعبِّر عمّا يتجاوزنا، لا لأنّه في متناولنا، بل لأنّ الله ارتضى أن يكشف ذاته لنا بما هو منّا؛

إذ هو قادر أن يكلّمنا بلغتنا دون أن تكون لغتُنا إيّاه. وإذا ما قيل عن الله إنّه خَلَق الإنسان على صورته ومثاله، فليس بمعنى أنّ قوانا البشريّة هي من قوى خاصّة فائقة في الله، كأن نقول: “إنّ عقلنا هو من العقل الفائق لله”. “الصّورة”، في العمق، هي من كون الإنسان قابلاً لأن يعرف الله، في الحقّ، أي كما هو، وذلك بالحبّ. “والمثال” هو أن تتحقّق قابليّة الإنسان هذه بنعمة الله! لذا كانت العلاقة الأساس الّتي يتعاطاها الإنسان هي علاقته بالله. الكلّ، أساسًا، من فوق وإلى فوق. وهذا ليس مجال العقل بل الرّوح. مجال العقل هو بين الإنسان وعالمه. ثمّ ما يستمدده الكيان من فوق يترجمه بلغة الإنسان في علاقته بنفسه والإنسان والعالم فتمسي هذه العلاقة متروحنة. يحبّ بالمحبّة الّتي أحبّه الله بها، أو يغرف من ظلمة نفسه!

     ثمّ كلمة الله منه وإيّاه. لا نتعاطاها كقوى غاشمة من عند الله بل كحضور حيّ. الكلمات الّتي يبثّها الله فينا هي إيقونات. إيقونات بمعنى السّرّ والرّمز كما تعاطاهما وعبَّر بهما القدّيس مكسيموس المعترف. تمسُّك الكنيسة المقدّسة بإكرام الإيقونات، رغم الحرب الضّروس عليها لأكثر من مائة عام، لم يكن إصرارًا على مشروعيّة مخاطبة العين بالرّسم وحسب؛ بل، في العمق، لأنّ الإيقونة هي عقيدة التّجسّد ممدودةً في مفاعيلها إلى الّذين يؤمنون بالرّبّ يسوع، ومعيشةً في كنيسة المسيح بالرّمز.

الحياة في المسيح أيقونيّة الطّابع أو لا تكون. بعدما تجسَّد ابن الله، بعدما اتّخذ بشرتنا، لم نعد نتكلَّم عليه، كغريب أو كبعيد أو كموضوع؛ صرنا في مستوى مساهمته، اقتبالِه، هو إيّاه، تحت هذه العلامة أو تلك. الرّمز، بخلاف ما نتصوّر، اليوم، أنّه اصطلاح يشير إلى معنى، هو العلامة المنظورة لحضور الله غير المنظور. الرّمز، بهذا المعنى، حاملٌ للسّرّ الإلهيّ؛ السّرِّ الّذي يفوق كلَّ عقل، والّذي هو “عمّانوئيل”: الله معنا! بعد التّجسّد الإلهيّ، لم نعد نتعاطى شيئًا في ذاته، أو لذاته، في كنيسة المسيح. بتنا نتعاطى المسيح في كلّ شيء إلاّ الخطيئة. “المسيح معنا وفيما بيننا، كان وكائن وسيكون”. فهذه الّتي بها نتعاطى مسيحَ الرّبّ، فيما بيننا، هي، بالضّبط، الرّموز، أو قل الإيقونات، في كنيسة المسيح. بهذا المعنى، جسدُ المسيح رمزُه. كلمة الله إيقونتُه. وكذا اسمُه ورسمُه. صلواتنا رمزيّة. كلّ ما نتعاطاه، كمؤمنين، أسراريّ. إشارة الصّليب، السّجدة، الشّمعة الّتي نُضيئُها بإيمان. المال الّذي نضعه في صندوق التّقدمات بتقوى يستحيل بَرَكة. السّلام الّذي نتبادله باسم المسيح بسلامة القلب يبثّ نعمة الله. حياتنا كلّها في المسيح حشدُ إيقونات وتبادلُ رموز وعَبَقُ أسرار! بهذا المعنى، المؤمنون، بالرّوح والحقّ، بالرّبّ يسوع، شهودُه، ومن ثمّ رموزُه وإيقوناته في الأرض!

     بخلاف ذلك، ما لا نتعاطاه إيقونيًّا، ولو عالج موضوعات إلهيّة، تنكُّرٌ لعقيدة التّجسّد. لا قيمة كنسيّة لعلمٍ، مهما كان رفيعَ المستوى، ما دام يتعاطى الإلهيّات كمعقولات. الأفكار الّتي تعالجها كنتاج عقليّ، على هذا الصّعيد، وبغير مخافة الله، لا يمكنك إلاّ أن تسيء فيها إلى الله وتدبيره الخلاصيّ. ما إن يتحوّل الله موضوعًا لديك حتّى يصير الكلام عليه كالكلام على أيّ موضوع آخر. ثمّة فرق هائل، في الوجدان، بين أن تحسب الإلهيّات مواد عقليّة وأن تحسب العقل لغة تعبِّر بها، بفضل تجسّد ابن الله، عمّا لا يُعبَّر عنه. في الحال الأولى، تُخضَع الإلهيّات للمسارات الفكريّة والعلميّة والتّاريخيّة وما إليها. وفي الحال الثّانية تسوق كلّ فكر إلى طاعة المسيح. في الحال الأولى تغوص في تقنيّاتك العقليّة بغرور وثقة بالنّفس. في الحال الثّانية تسعى لأن تقرأ بعقلك، بمخافة الله وروح الصّلاة ما تُعطاه من فَهْم من فوق. في الحال الأولى، لا مانع لديك أن تغور في متّاهات تصوّراتك وأميال نفسك لتعالج مسألة إلهيّة مطروحة عليك. في الحال الثّانية تلزم الرّهبةَ بإزاء الحضرة الإلهيّة ولا تتكلّم إلاّ إذا وَضع العليُّ كلامًا في فيك كنبيّ. فيما عدا ذلك، ولو مالت نفسك إلى فكرة، ولمّا تتيقّن من ختم ربّك عليها، قلت، كما قال الرّسول المصطفى بولس: “[هذا] بحسب رأيي. وأظنّ أنّي أنا أيضًا عندي روح الله” (1 كورنثوس 7: 4).

     كلمة الله، أو قل الكلمة الّتي يُفترض بالمؤمنين أن يتعاطوها، شأن خطير! لذا نولي ما نقول وما نكتب أشدّ الحرص حتّى تأتي الكلمة للبنيان لا للهدم، للتّثبيت في الإيمان لا للتّشكيك. ولا نقرأ إلاّ ما يوصينا به المتقدِّمون بيننا حتّى لا نحصد الزّؤان عوض القمح. تعاطي الكلام، عبر وسائل الإعلام، حشوًا للذّهن بالمعلومات، هرطقةُ العصر وأساسُ كلّ الهرطقات! مرّة أخرى، أعود وأقول: الكلمة قوّة هائلة! وما لا يبني منها يهدم لا محالة! ليس جمعُ المعارف فضيلة! الفضيلة أن تبثّ بالكلمة النّعمةَ، وأن تلتمس الكلمة الّتي تمدّك بالنّعمة! فيما عدا ذلك الكَلِمُ لغوٌ وثرثرات تشحن النّفوس بكلّ مفسدة!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share