تحتوي “الموعظة على الجبل” ذكرًا لأمرين اعتبرهما السيّد المسيح في أساس تعاليمه ورسالته في العالم، وهما: البرّ (أو العدل) والسلام. تقول التطويبة السابعة: “طوبى للساعين إلى السلام فإنّهم أبناء الله يدعَون” (متّى 5، 9). وعلى رغم صعوبة تحقيق ملء السلام، فالمسيح ينتظر من المؤمنين السعي في طريق الاقتداء به لتحقيق السلام. وليس المقصود بالسعي سوى الإدراك الواعي والفاعل ان البرّ أمام الله وفي ما بين البشر، هو وحده أساس السلام.
وتبعاً للعهد القديم الذي يرى في حضور الله بين شعبه التجلّي الأسمى للسلام، يوضح الإنجيليّ يوحنّا أنّ في حضور المسيح مصدر السلام وكماله. وهذه هي إحدى مميّزات إنجيله، أنّه عندما يحزن التلاميذ بسبب قرب فراق معلّمهم عنهم، يهدّىء يسوع روعهم: “السلام استودعكم وسلامي أمنحكم” (يوحنّا 14، 27). لم يعد هذا السلام مرتبطاً بحضوره الحسّي على الأرض بل يتعلّق بانتصاره على الموت. ولذا، بعد قيامته، يعطي المسيح التلاميذ، مع سلامه، الروح القدس وسلطة غفران الخطايا (20، 19-23).
العدل الاجتماعي والسلام لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. يقول النبي داود في سفر المزامير: “الرحمة والحقّ تلاقيا، البرّ والسلام تعانقا” (85، 11)، ويقول أيضاً: “فيقضي بالبرّ لشعبك وبالإنصاف لبائسيك، تثمر الجبال للشعب سلاماً والتلال برّاً، لأنّه ينقذ المسكين المستغيث والبائس الذي لا ناصر له” (72، 2-3 و12). من هنا لا يقتصر نقيض “السلام” على “الحرب”، بل يشتمل على “الشر” و”الظلم” و”الاستكبار”…
من الثابت لدى الرسول بولس أن “ملكوت الله ليس أكلاً ولا شُرباً، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رومية 14، 17). والتعابير التي ترافق لفظ “السلام” في الكتاب المقدّس كلها تعابير إيجابية، نورد منها: المحبة والرحمة والحياة والشفاء والصحة والبَركة والخير والسعادة والطمأنينة والأمان… وهل هذه كلها إلا من ثمار الروح التي عدّدها بولس في غير مكان، ومنها أيضاً “المحبّة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف” (غلاطية 5، 22). من هنا ندرك أن رسالة المسيح في العالم تكتمل في إحقاق السلام والعدل. بذا يصير العالم مكان تجلٍّ حقيقي لله، يغدو ملكوتاً.
بالنسبة إلى الرسول بولس، يرتبط السلام بالنعمة والفداء. لهذا يقرن بولس السلام بالنعمة في بدايات العديد من رسائله “النعمة لكم والسلام”. أما ارتباط السلام بالفداء فيتجلّى في قوله بأن المسيح حقّق السلام بدمه على الصليب: “صالح الله كل الكائنات، سواء في الأرض أو في السموات، فهو الذي حقّق السلام بدم المسيح على الصليب” (كولوسّي 1، 20).
ولكن كيف يمكن المؤمن أن يواجه العنف؟ ينبغي مواجهة الخصم وتعدّيه عليه بالصلاح والسعي إلى إيقاف شرّه بالخير، وفي هذا يقول الرسول بولس: “لا تدع الشرّ يغلبك، بل اغلب الشرّ بالخير” (رومية 12، 21). المرجو ليس فقط أن نقول: لا للعنف أو لا للشرّ، ولكن أن نقول: نعم للسلام. غير أن السلام القائم على الظلم ليس سوى سلام زائف. ولا يكون السلام سلاماً حقيقياً ما لم يقترن بالعدل. من أجل هذا السلام نناضل.