في غزّة موعد مع المسيح

mjoa Wednesday November 21, 2012 130

يعتبر المطران ناوفيطوس أدلبي أن غزّة هي إحدى أقدم عشر مدن في العالم، فيقول: “لقد سكنها الكنعانيون منذ القديم، وربما كانوا أوّل بُناتها (تكوين 10، 19). ثمّ استوطنتها نحو سنة 1800 قبل الميلاد قبائل عربية، أضفت عليها طابعاً عربياً مميّزاً لا يزال قائماً حتى اليوم. وذُكرت في رسائل “تلّ العمارنة” في القرن الرابع عشر ق. م.”، ثمّ استولى عليها سبط يهوذا بعد خروج العبرانيين من مصر، ثمّ ما لبث أن استردّها الفلسطينيون (قضاة 6، 4)…

ويذكر التقليد المسيحي أن الطفل يسوع مع مريم أمه ويوسف قد مرّوا بغزّة إبّان هروبهم من بطش هيرودس السفّاح إلى بلاد مصر، أو في طريق عودتهم من مصر إلى فلسطين. وورد ذكر غزّة في كتاب “أعمال الرسل”، عندما التقى فيلبّس الشمّاس، في الطريق “المنحدرة من أورشليم إلى غزّة، وهي مقفرة” (8، 26)، رجلاً حبشياً كان وزير الملكة قنداقة، فبشّره بالمسيح وعمّده. أما أوّل أسقف على غزّة، وفق التقليد الكنسيّ، فهو القدّيس فيلمون الذي تحمل اسمه إحدى رسائل القدّيس بولس الرسول.

وقد شهد التاريخ المسيحي الكثير من الشهداء الغزّيّين الذين سقطوا دفاعاً عن الإيمان، ومنهم القدّيس سلوانس (+310)، والقدّيسون الثلاثة الإخوة إفسابيوس ونستاب وزينون. ولم تنقرض الوثنية من غزة إلاّ على عهد الأسقف الشهيد برفيريوس المتوفّى عام 420. كما شهد المجمع المسكوني الأوّل (325) حضور أسكلبياس أسقف غزّة.

في أواخر القرن السادس الميلادي زار غزّة أحد الحجّاج الإيطاليين اسمه أنطونيوس، فوصفها بأنها “مدينة بديعة، فيها خمس كنائس جميلة. وأهلها مشهورون بحُسن استقبالهم للغرباء”. وكان يوجد في غزّة آنذاك مدرسة لاهوتية مرموقة، اشتهر بين رجالها بروكوبيوس الغزّي (+528) المؤرّخ الكبير وجامع تفسيرات الآباء القدّيسين للأسفار المقدّسة. أما الصورة الأكثر إشراقاً للمسيحية في غزّة عصرذاك فهو القدّيس دوروثاوس الناسك الكبير.

تضاءل عدد المسيحيين في غزّة جيلاً بعد جيل، وبخاصة في ظل سلطة الدولة العثمانية التي أثقلت عليهم الجزية، حتى باتت لا تطاق ولا تُحتمل… ولا يتجاوز عددهم اليوم الألفي نسمة. غير أن بعض الآثار المسيحية ما زالت قائمة إلى اليوم في مدينة غزّة، وأبرزها كنيسة القدّيس برفيريوس.

الطفل يسوع لم يغادر غزّة، بل بقي ساكناً فيها. هو لم يعبر فيها وحسب، في ذهابه أو في إيابه، من فلسطين إلى مصر، بل استوطنها. أتى إليها طفلاً، جال في شوارعها شاباً، وعلّم فيها رجلاً. داعب أطفالها، تحنّن على أراملها، أطعم جائعيها، أبرأ مرضاها، أقام موتاها.

حمل صليبه في أزقّتها، صُلب على أسوارها، ونهض فيها من بين الأموات. وهو لم يبرحها يوماً، يستفيق مع أهلها مع كل شروق شمس، يرافقهم في دروبهم، هو النجّار ابن النجّار، هو الصيّاد، هو الفقير، هو الكريم، فكيف لا يكون مواطناً من غزّة العزيزة؟

في كلّ يوم يُجلد ويُسمّر ويُصلب، وفي كلّ يوم يقوم من القبر. اليوم دوره أن يكون في غزّة، وهو لم يخلف بالوعد، إنه هناك. فمَن شاء أن يرى المسيح، اليوم، فليذهب إلى غزّة.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share