أنا أعرف أنَّ غالبيَّة القوم لا يكترثون لمثل هذا الصَّوم. إنَّما، كما يقول الأنبا شنوده المغفور له، يبقى الصَّوم ذبيحةَ حبٍّ مقدَّمة لله.
وضَعَتِ الكنيسةُ صومَ الميلاد بقصد الاستعداد للقاء المسيح الرَّبّ الآتي لخلاصنا. الصَّوم والصَّلاة والتَّسبيح ومطالعة الإنجيل تجعل من داخلنا مِذوداً يولَد فيه المسيح. لا ننسى أيضًا أنَّ صوم الميلاد مرتبطٌ بتوبتنا. وما التَّوبة سوى الرُّجوع إلى الله، الانتقال من روح العالم إلى روح الله. هذه هي القضية كلّها: أن نعيش بحسب وصايا الله لا بحسب “ما تبثُّه وسائل الإعلام والإعلان وتعلّمنا إيّاه”. الصَّوم، بمعنى من المعاني، هو أيضًا أن نصوم عن الإعلانات الدنيويَّة هذا “الأُخطبوط” العالمي، من TV وإنترنت وجرائد، الذي يَسحرُنا ويُظلِمُنا.
* * *
إسأل نفسك هل أنت تشعر براحة إذا كنتَ في الصَّلاة! في الكنيسة مع إخوتك أم في الغرفة وحدَك؟!
الشكليَّات، الواجِبات، لا تكفي مع أنَّه لا بدّ منها في البداية. صومُ الميلاد يرافقُه جملة من أعياد القدِّيسين الكِبار المحتفَل بهم:
لا تنسَ أن تذكُرَهُم، أن تقرأَ سيرَ حياتهم، وربمّا تستطيع الاشتراك، عندها، بالذبيحة الإلهيّة عند الاحتفال بأعيادهم. من هذه الأعياد ذكرى الرسول متّى الإنجيلي، دخول السَّيِّدَة إلى الهيكل، القدِّيس يعقوب الفارسي المقطَّع، الرسول أندراوس المدعوّ أوَّلاً، القدِّيسان بربارة ويوحنَّا الدِّمشقي، القدِّيس سابا المتقدِّس، القدِّيس نيقولاوس العجائبي، القدِّيس اسبيريدون العجائبي، القدِّيس أغناطيوس الأنطاكي … لا تنسَ أنَّه على الرغم من ظُلمة العصر التي نعيشها اليوم لنا رجاء أنَّ روح الله يعمل حتى في العصر الخاطِئ المبتعِد عن الله.
* * *
الميلادُ ظهورُ الرَّبِّ يسوع (الإله-الإنسان) الأوّل الخفيّ في الجسد. هذا العيد ما هو إلاّ رجاء بزوغ عهدٍ جديدٍ وقِيمٍ جديدة يقدِّمُها السَّيِّد إلى هذا العالم اليائِس والبائِس. الإنسان اليوم في عطشٍ إلى القيم الروحيَّة، لقد تعب من الاستهلاك الجسدانيّ والتقنيّ. لقد أضحى الصَّوم عن المقتنيات ضرورة ماسَّة في عصرنا، بل أقول أصبح الدواء الشَّافي (من أمراض هذا العصر كالقلق، والضغط، والإحباط، والكآبة، واليأس، …).
ومَن لك أيُّها المسيحيُّ سوى المسيح وكنيسته تلتجىء إليه وإليها لكي تهتدي، لكي تُشفى. حبَّذا لو تعود الكنيسة، كما يقول الذهبيُّ الفم، “مستشفى” لمعالجة أمراض هذا العصر. كلُّ واحِدٍ منَّا أصبح مريضًا يعاني من آلامِه ولا يعرِف كيف يعالِج أسقامَهُ النَّفسيَّة والعصبيَّة.
إِكسِرْ طبيعتَك الملتوية، (تَغَرَّب عن) الاحتفالات الباطِلَة. بساطةُ القلب، بساطة العيش، كنزٌ عظيم. تعالَ إلى الصَّوم، الرَّبُّ معشوقُك ينتظركَ في المغارة، مغارة سوادِ هذا العالم، لكي ينيرَ قلبَكَ وجسدَك في يوم الميلاد المشهور. القطارُ بعدُ متوفّر (في المحطَّة)، إلتَحِقْ به قبل فوات الأوان.
صومٌ مبارَك!، وإلى ميلادٍ مجيدٍ أيضًا.
+ أفرام
مطران طرابلس والكورة وتوابعهما