مسألة الإيمان المسيحي بالثالوث الأقدس ليست هي، لدى علماء الكلام المسلمين، المعضلة الأساسية التي تعترض تقدّم الحوار الإسلامي – المسيحي على المستوى العقائدي. بل المعضلة تكمن في الإيمان المسيحي بعقيدة التجسّد الإلهي، أي بصيرورة ابن الله، أو كلمة الله، إنساناً. ففي الفكر الإسلامي المعاصر ثمة اجتهادات متقدّمة في شأن الاعتراف بالإيمان المسيحي بالتوحيد الإلهي، لأن المسيحيين حين يذكرون الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس، فإنهم يؤكّدون كونهم إلهاً واحداً.
نجد في التراث المسيحي العربي العديد من النصوص التي حاولت الدفاع عن الإيمان المسيحي بالتجسد مستعينة بمفهوم “الجود الإلهي”. فالمطران بولس أسقف صيدا الأرثوذكسي (القرن الثاني عشر) يعتبر أن جود الله وكرمه قد تجلّيا في سكنى كلمته في الإنسان أشرف مخلوقات الله، فيقول: “ولأن الله جوّاد، وجب أن يجود بأجلّ الموجودات. وليس في الموجودات أجود من كلمته، يعني نطقه. ولذلك وجب أن يجود بكلمته حتى يكون أجود الأجواد، وقد جاد بأجود الموجودات (…) ولما لم يكن في المخلوقات منه أشرف من الإنسان، اتخذ الطبيعة البشرية من السيدة مريم المطهَّرة، المصطفاة على نساء العالمين”. ويضيف عمّار البصري (كاتب مجهول من القرن التاسع) في الموضوع عينه قائلاً: “إنّ جود الله وكرمه وصلاحه وجبروته التي دعته إلى أن أبدع وأنشأ خلقه، هي التي دعته أخيراً إلى استكمال إحسانه بتجسّده بشرياً”.
ينتقد التراث المسيحي العربي الذين يرفضون التجسد، ويعتبر موقفهم نابعاً من “بخل الإنسان” الذي يرفض جود الله ويرفض تشريف الله له. فيقول الفيلسوف أبو زكريا يحيى بن عديّ السرياني التكريتي (+974): “وإذا كان اتصاله بنا ممكناً، وكان لنا فيه غاية الشرف، وله فيه كمال الجود، فلا يمنعه إلاّ العجز أو البخل. وهما من صفات النقص، فهو يتعالى عنهما. فيجب اتصاله بنا”.
ويعتقد تاوذورُس أبو قرّة (القرن التاسع) أنّ السبب الأول للتجسّد هو أن يقترب الله من الإنسان، فيتمكّن الإنسان من التعرّف إلى الله، والسبب الثاني الذي لا يقل أهمية هو فداء الإنسان وإنقاذه من سطوة إبليس. لذلك “أرسل الله كلمته وروحه إلى مريم العذراء الطاهرة، فحملت نور الله الذي هو من الله، وظهر متجسّداً (…) فصارت كلمة الله شبه إنسان بلا خطيئة، وهو إله”.
ويؤكّد أبو قرّة ألوهة المسيح بقوله: “المسيح كلمة الله وروحه، وإنه من ذاته وجوهريته، خالق غير مخلوق”. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ ثاوذورُس يقول عن المسيح إنه “كلمة الله وروحه”، لأن القرآن يقول ذلك عن المسيح. لذلك، يستعمل ثاوذورُس تعابير المسلمين وآياتهم القرآنية كي يوضح لهم الإيمان المسيحي، ويزيل كل الالتباسات الممكنة.
لقد شرّف ابن الله الإنسانية كافة عندما زارنا بالجسد، فسكن بيننا. هو شاء ألاّ يبقى متعالياً، بل تواضع إلى حدّ قبوله بالصليب، ذروة الجود الإلهيّ: “بل (المسيح) تجرّد من ذاته متّخذاً صورة العبد وصار على مثال البشر وظهر على هيئة إنسان. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (فيلبّي 2، 7-8). الجود الإلهي، وثمرته التجسّد، هما كمال المحبة وبرهانها الساطع.