قيل إن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن التديّن. وقيل أيضاً إن سقوط الإيديولوجيات الأممية والقومية، وسقوط العلمانية الإلحادية سيفتح الطريق واسعاً امام بروز الخصوصيات، والثقافات المحلية، والأقليات، والحركات “الكارزمية”، والتيارات الإحيائية، وعودة “المقدّس”…
مع بداية الألف الثالث الميلادي، تبيّن أنه صحّ بعض ما قيل. ولكن، إذا ما تفحّصنا بدقة، الأحوال الراهنة للدين، بالأخص أحوال المسيحية التقليدية في الغرب، لوجدنا أنه من السذاجة الإعتقاد بأن الغرب تطلّق من إلحاده وعاد أهله إلى ارتياد كنائسهم ومعابدهم وأديرتهم والانصياع إلى إرشادات أساقفتهم وقسّيسيهم.
لا بل نقول: إن الغرب، اليوم، يمرّ بأزمة دينية هي أكثر شدة وتعقيداً من أي مرحلة مضت، والمؤشرات على ذلك عديدة، نذكر هنا بعضاً منها.
صحيح أن الشيوعية التي لازمتها صفة الإلحاد قد سقطت. وصحيح أن الدين في البلدان التي كانت واقعة تحت قبضة ستار الشيوعية الحديدي قد انتعش من جديد، لكن هذا الإنتعاش الديني اتّخذ بسرعة وجهة التطرّف، والانغلاق، والتعصّب، والتشنّج، والطائفية المتماهية مع القومية الضيقة.
وأكثر المتضررين من الوضع العالمي الجديد المتّسم بزوال الاستقطاب الثنائي وبانفتاح العوالم بعضها على بعض، إعلامياً واقتصادياً ومعلوماتياً وسياسياً، وما نتج من ذلك من قيم جديدة قد لا تكون منسجمة مع القيم المسيحية التقليدية، هي الديانات الرسمية والعريقة، لا سيما الكاثوليكية والبروتستانتية.
فالأزمات التي تعانيها الكثلكة والبروتستانتية، في الغرب، عديدة أهمها:
1 ـ التحوّل الجغرافي في مركز الثقل الديني. بينما كان هذا الثقل يتمركز في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، أصبح اليوم يستوطن دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، حتى بات المراقبون يتحدثون راهناً عن هوّة تتسع ما بين كاثوليك الشمال وكاثوليك الجنوب (كما هو الحال في ما يختص بالهوّة الاقتصادية ما بين الشمال والجنوب..) ويتوقع أن يصبح ثلثا عدد الكاثوليك في العالم من أهل الجنوب، وفيما يختلف هؤلاء عن أهل الشمال، لغة وثقافة وحضارة، يبقى أهل الشمال يحكمون أولئك سلطة، ومالاً، وتقاليد، وطقوساً..
2 ـ كما تعاني المسيحية الغربية التقليدية اجتياح الحركات الدينية الجديدة، والديانات غير المسيحية، معاقلها التاريخية ونفوس وعقول أبنائها. فنظراً إلى حاجة الغرب الصناعي إلى يد عاملة أجنبية، واستقدام الغرب أكثر فأكثر هذه اليد العاملة، أصبحت عواصم البلدان الأوروبية والأميركية تشعر بـ ” تنافس ديني” ـ إذا صحّ التعبير ـ يأتيها من أبناء العالم الثالث.
3 ـ إلى المعاناة الآتية من الخارج، هناك معاناة تأتي من الداخل وتتمثّل بعدم التطابق ما بين التعاليم الرسمية والممارسة الفعلية لمؤمني الديانات التقليدية على صعيد العقائد وبالأخص الممارسات الأخلاقية. فنظراً إلى جمود تلك التعاليم وإلى تطوّر تقنيات الطب المتعلّقة بعلوم الحياة (البيولوجيا)، وإلى تطوّر الحياة العصرية بشكل عام وعلى جميع الأصعدة، يلاحظ أن العديد من المسيحيين الغربيين أصبحوا، وعلى الرغم من اعتقادهم الذاتي بأنهم باقون مسيحيين،”انتقائيين”. أي أنهم ينتقون من التعاليم الدينية الرسمية ما يرونه مناسباً لهم ويستبدلون الباقي بما يحقق مصالحهم الخاصة ويتفق مع أوضاعهم الراهنة، حتى لكأن المسيحية الغربية أصبحت لدى عدد كبير من المسيحيين ديانة تضم لائحة من المبادئ معروضة للإختيار (Religion à la carte).
4 ـ الكنائس المسيحية الغربية، وعلى عكس الكنائس المسيحية في الشرق الأوسط، تتعثّر في مسيرتها المسكونية، أي في السعي لتحقيق وحدة الكنائس.فالجروح المتبادلة ما بين الأرثوذكس والكاثوليك في أوروبا الشرقية والتي سببها العهد الستاليني لم تندمل بعد سقوط الماركسية، لا بل استعادتها اليوم الذاكرة الجماعية وحوّلتها إلى صراعات طائفية تكاد تقضي على كل تقارب ما بين الكاثوليك والأرثوذكس .
5 ـ مع تقدّم مسيرة بناء الوحدة الأوروبية تنكشف أكثر فأكثر مشكلة الموقف الذي يجب أن يعتمده الاتحاد الأوروبي من الدين. فكيف يمكن التوفيق ما بين القوانين والشرائع المدنية (العلمانية) الموحدة وما يمكن أن تحدثه بعض تلك القوانين من تناقض مع بعض الشرائع الدينية؟ كيف يمكن، بالتالي، “العودة إلى الدين” أو إلى التديّن، مع احترام التعددية الدينية، وفرض قوانين مدنية ملزمة تتعارض مع الأديان؟
هذه المشكلة ليست مطروحة على أوروبا وحدها، بل هي مطروحة أيضاً على الولايات المتحدة الأميركية أيضاً. فلقد تقدّم، الرئيس السابق بوش الإبن بفكرة استعانة الدولة الأميركية بالمنظمات الدينية المسماة “جيوش الخلاص” والتي تهتم برعاية الفقراء والمعدمين، ومساعدة المدمنين والمنحرفين، ليس فقط من خلال إعادة التأهيل نفسياً وطبياً، بل أيضاً من خلال “العون الروحي” مع ما يفترض مثل هذا المشروع من مساعدات مادية تقدّمها الدولة لتلك المنظمات. إلاّ أنه اصطدم بحائط ” حياد الدولة ” حيال الأديان، أو بعبارة أخرى، بحائط علمانية الدولة
إن المسيحية الغربية التقليدية هي حقاً أمام تحديات كبيرة يطرحها عليها القرن الواحد والعشرون “بعولمته”ـ لا بل بعولماته ـ وبما توقّع له البعض من أنه سيكون قرن العودة إلى الدين. فكيف عليها أن تواجه تلك التحديات؟ ما يسجله المراقبون حتى الآن هو أنها في ارتباك كبير ولا تعتمد في مسلكها إلاّ رد الفعل المتمثّل بالحفاظ على هويتها وسلطتها وبالإمعان في التقليدية.
لا يكفي أن يعود المجتمع إلى التديّن بل المطلوب أن يعرف المجتمع كيف يترجم الدين ليصبح دواء للإنسان، فرداً وجماعة.