الكبار قلّة. واحد منهم بطريرك الروم الأرثوذكس إغناطيوس الرابع ذهب عنّا إلى اللّطف الإلهي. شعرت لما ووري الثرى انه يقر في ملكوت الآب. كنا نشتاق بقاءه بيننا. إلى اللامدى، إلى الإقامة في سكينة ربه وافتقادنا اياه.
اذا ذكرت كاهنا ترى نفسك مرفوعا إلى تقواه لتسكنك وإلى ما حققه بهذه التقوى في أعماق من رعاهم. هذا ما ينتظره الرب ومحبوه من الراعي. وفي هذا أعطى من نذكر ذاته إلى كل الناس أكانوا من كنيسته أو من غير كنيسته أو من أهل العالم.
أعطى إلى العقل ما أخذه بالعقل وبه التمع ويزين لي انه في هذا كان الأقوى. قلت ما قلته هنا في أسقف كانت له إطلالة عظيمة على الدنيا. في هذا الجانب يذكرني بالروحانيين القدامى الذين لم يفصلوا بين ما استلهموه الله وما أبدعته أذهانهم فأعطوا مما نزل عليهم.
كان السيّد إغناطيوس الرابع يجمع بين الحكمتين الإلهية والبشرية والبشرة ركيزة فعلية للإلهيات التي تنزل علينا. اظن ان أهميّة هذا الراحل الكبير تكمن في انه قدر ان يلج باب المعرفة الإنسانية ليوحي للمشككين انهم لا يحتكرون الذهن الحر الصافي وان أهل الايمان يملكونه أيضا.
بفضل هذه المسيرة كما أراها لا يستطيع الخارجون عن الإيمان ان يروا الإدراك حكرا عليهم. من حيث الفهم ليس الخارجون عن الايمان اعظم ذكاء من أهل الإيمان. ان البطريرك إغناطيوس في تحركه الفكري ثبت هذا.
***
لقد استطاع هذا السيد الكبير ان يبيّن ان العقل الصافي لا ينفصل عن البساطة. هناك بساطة انجيلية أو عيسوية كانت تلتحم عنده مع الذكاء. اذا اردت ان أكون حادا أقول انه حافظ على اتّضاع القرية وعلى فذلكة الإنسان الأكاديمي. أحيانا كانت تصبح بساطته مذهلة وتتساءل امامها كيف يجمع هذا الرجل المفرط في الذكاء بين العقل المتقد وتعبير يشبه أحيانا كلام الأطفال. ثم تتساءل عن طبيعة تقواه أو عن لونها فتراه أحيانا شفاف اللغة الدينية وعالي التفلسف. واذا اردت ان تصنف طبيعة ذهنه تقول انه نشأ على المنهاج الفلسفي دون ان يهمل بسيط الكلام.
يخفي البساطة بأسلوب تعبيري يحتجب وراءه احتجابا اظن انه كان يأتيه من حياء قديم موروث من مناهج النسك.
في هذه البيئة كان يؤلمه الذين ليس عندهم لهب ولو كان يصبر كثيرا. جاءه الصبر من معاناة طويلة في أوساطنا الدينية، من رؤيته لضعفاتنا ومنها ان الكنيسة لم تصل بعد إلى مرتجاها ان تكون عروس المسيح. كان يرى الوهن عندنا ومع ذلك كان في آن “رجل أوجاع” كما قال الكتاب وانسان الرجاء الكبير.
ربما بسبب غير المحقق والتماسا للمرجو صار رجل المؤسسات. هل اعتقد ان المؤسسة هي الثبات، أو الحلم المحقق؟ اظن هذا. كان هذا تعبيرا عن الجانب البراغماتي في طبعه. ما جعله يرجح التطبيق على النظري البحت.
***
كنت ترى هذا في توليه البلمند وكل مدى تربوي في كنيستنا واذا اردت ايضاح شخصيته ايضاحا اكبر اقول انه كان مربيا في كل المجالات التي تعاطاها في التعليم وفي معالجته الشأن الرعائي في الكنيسة. بات يخشى ان نستغرق في النظريات الكبيرة ولا نصل إلى المعالجة الحقيقية لمشاكل معهد اللاهوت من جهة ولمشاكل الكنيسة من جهة. في الحالتين كانت الرعاية تطغى عنده على الذهنية الأكاديمية. المهم في رأيه الخلاص والنتائج العملية لكل ما نقوله أو نفكر به.
المؤكد ان الرعاية تعني الشدة وليس فيها تحير وكان هذا باديا في كل تحرّك له. والرعاية تنطلق من القلب إلى الذهن.
من هنا ان البطريرك الراحل كان يشرف على قلبه من ذهنه. هذا يجعل الكاهن أو الأسقف المفكر في توتر بين قناعاته النظرية وضرورة التطبيق أو بين الحقيقة ومعاملة الناس. كيف تقود بالنصوص الدينية شعبا قليل الاطلاع عليها؟ كيف تجعل رعيتك في الوحدة وفي الحقيقة بآن؟ وبعبارة اخرى كيف، معلما، تملي على الناس العقيدة وراعيا ترسخها في عقولهم على قدر قوتها وتهيئها لاقتبال الحق.
في جانب من جوانب إحساسه أظن انه لم يخرج من بساطة العيش. هو ما كان يرى تصادما بينها وبين الثقافة العليا. يذهلني فيه هذا الجمع بين الفكر البسيط والفكر المعقّد. كنت تراه شخصية غنية بجمع الأضداد إلى حال واحد كما نقول في أيام الصيام الكبير.
كان يريد ان يكون عقلانيا وحساسا في آن. العقل والشعور يمتزجان عندنا في العبادات وهذه كان يتقنها. ربما تركزت ديانته على ما فيها من فكر ولو عرف بساطة المسيح وهنا أصرح ان الرتب ما كانت تغريه وما كان يتقبلها ليعلو بها. الكنيسة الأرثوذكسية في كل العالم تحب صورة الشماس المثقف الذي لا يتوق إلى المراتب. يدعوك اليها الرؤساء للحاجة وتضطر إلى الطاعة. تصير بطريكا أحيانا ويبقى لك قلب شماس يؤثر أداء الترتيل وبهجة العبادة. الأرثوذكسيون قداس والباقي يعطى لهم كزيادة.