أخيرًا، بعدما انحبست الأنفاس، أيامًا، وسرت شائعات مضنية مبلبِلة، خرج إلى النّور، إثر مخاض، بدا عسيرًا، بطريرك جديد لأنطاكية، خلفًا للمثلّت الرّحمات البطريرك أغناطيوس الرّابع (هزيم). البطريرك الآتي كان انتخابه يوم الإثنين، السّابع عشر من شهر كانون الأوّل، العام ألفان واثنا عشر، في ذكرى الفتية الثّلاثة القدّيسين الّذين حفظهم الرّبّ الإله في الآتون. في نهاية المطاف، يحفظ الرّبّ الإله كنيسته، لأجل القطيع الصّغير، مهما استعرتْ النّيران عليها.
البطريرك الجديد، حفظه الله وسدّد خطاه، وبوركنا به، هو يوحنّا العاشر (اليازجي). في الخمسينات من العمر. راهب أصيل. أوّل بطريرك يأتينا كراهب حقّانيّ منذ العام 1899. قبله، مذ ذاك، تراجعت الرّهبانيّة المشتركة حتّى انطفأت، إلاّ بعض الرّهبنات النّسائيّة المزاريّة. فكان يُحسَب الرّاهبُ مَن أقام عازبًا في خدمة كهنوتيّة. طبعًا، بعض البطاركة، في تلك الحقبة، ربّما كان قدّيسًا، يصوم ويصلّي ويسلك في الوصيّة. لكنّ النّظام الرّهبانيّ التّراثيّ انفقد. اليوم تعود الرّهبانيّة الأصيلة، في شخص البطريرك المنتخَب، على الرّجاء أن تستردّ مكانتها في وجدان المؤمنين، ووهجَها في حياتهم، ومجرّتها الضّوئيّة في فضاء الكنيسة المقدّسة. الكنيسة، منذ البدء، كانت، أبدًا، تلازمها قوّة الشّهادة. ولمّا خفتت شهادة الدّم تلظّت شهادة النّسك، المعروفة بـ”الشّهادة البيضاء”. حتّى هذه لم تكن من دون دم، أو حديث عن الدّم. لكنّ الدّم، في الشّهادة البيضاء، هو دم قطع المشيئة الذّاتيّة، بالطّاعة الرّهبانيّة، والسّلوك في الفقر استغناءً بالله، والغربة التماسًا للقربى من الله، والاندراج في إرث الأصوام والأسهار والصّلوات والأتعاب ابتغاء التّنقية والاستنارة والتّقديس ومعاينة الله.
الكنيسة، في التّاريخ، ما كان يمكن أن تكون كنيسة من دون روح الشّهادة أو الرّهبنة. لذا رجاؤنا، بعدما نسي القوم ميراثهم طويلاً، وحَسِب بعض المحْدَثين الرّهبانيّةَ رجعيّة فتّاكة، أو أصوليّة مقيتة، عن جهل، أقول رجاؤنا أن تعود إلينا الرّوح الرّهبانيّة وتشيع من جديد حتّى تعود إلينا الكنيسة، ولا نستحيل جماعة طقوسيّة جوفاء أو طائفة مفكّكة الأوصال أو أطلالاً متحفيّة. الحياة الرّهبانيّة هي العمود الفقريّ للحياة الكنسيّة. بدونها نُسلَّم إلى شهادة الدّم لنخلُص أو نموت ككنيسة!
هذا، والرّهبانيّة، كنمط حياة في المسيح، ليست، بالضّرورة، لكلّ النّاس، طبعًا. أمّا الرّهبانيّة كالتماسٍ لحياة الكمال الإنجيليّ، وتَوَخٍّ للحياة الآتية الآن ومنذ الآن، فلا غنى عنها لأحد. النّمط الأوّل، على خصوصيّته، أساسيّ لأنّه بؤرة الضّوء للنّمط الأخير الأعمّ. والأعمّ أن يصير الجميع عائلة الآب السّماويّ.
رجاؤنا أن يبثّ البطريرك الجديد الرّوح في هذا الاتّجاه.
والبطريرك الجديد، أطال الله عمره، راع تمرّس، كأسقف على الحصن (سورية)، في الرّعاية. له من اللَّطَف والاحتضان والصّبر والامتداد الرّفيق صوب الرّعيّة، صغارًا وشبّانًا وكبارًا، ما يجعله يتحسّس ويتابع قضايا النّاس، تعليمًا وتبنّيًا لحاجاتهم الإنسانيّة، ليجمعهم حوله، وإلى الواحد. هذا، في الصّعيد البطريركيّ، يطرح موضوع جمع المؤمنين كطائفة – وهذا من أبعاد انتمائها الكنسيّ إلى أوساطهم ومواطنهم – أقول يطرح موضوع الطّائفة الأرثوذكسيّة في اتّجاهين ملحَّين في الوقت الحاضر: شعور الرّعيّة، في المستوى السّوريّ، بأنّها عرضة للخطر والهجرة والتّهجير. وشعورها، في المدى اللّبنانيّ، بالضّياع والتّفكّك. هذا، طبعًا، إضافة إلى الامتداد صوب الّذين تشرّدوا في الأرض، للملمتهم وتوحيدهم بعضهم إلى البعض الآخر وإلى الكنيسة الأمّ. هذه مهمّة قاسية خَبِر غبطتُه بعضًا من وزرها خلال تولّيه أبرشيّة أوروبا. وهو يلقاها الآن أمامه ملحاحة، على أوسع نطاق، ما يستدعي تنظيمًا وتجييشًا للقوى الموفورة، حتّى لا تسرب الرّعيّة، هنا وثمّة، إلى اليأس من إمكان رعاية رعاة أهل البيت لها، إلى حيث لا نشاء لأبنائنا أن يحطّوا رحالهم! وما أيسر، اليوم، الشّرود والضّياع! إذا لم نَصِرْ في العسْر كنيسةً فلن نعود كنيسة! هذا حِمل ثقيل يطالع البطريرك الجديد ولا يرحم! هذا تَحدٍّ ليس بقليل!
والبطريرك الجديد دَرِبٌ في العِلم والتّعليم. معهد البلمند، منذ السّبعين من القرن الماضي، لم يثبت على حال. وبعدما دخل في نطاق جامعة البلمند، بات كبقعة زيت على مياه زاد اتّساعها فوق الحدّ. جامعة البلمند نفسها نجحت ونمت على نحو لافت، لكنّها نمت في الكنيسة خارج نطاق الكنيسة، حتّى لم يعد السّؤال، بقوّة العادة، يُطرَح: أين الكنيسة منها؟ طبعًا، لا نشاء أن يكون المستوى العلميّ، ومستوى التّفاعل المدنيّ، سواء في الجامعة ككلّ، أو في معهد اللاّهوت، بخاصّة، متدنّيًا، ولكن لا نشاء، في آن معًا، أن يكون الحضور الكنسيّ، بالرّوح والحقّ، مغضوضًا الطرْفُ عنه، في الجامعة؛ وأن تُتَعاطى التّنشئة الكهنوتيّة، في المعهد، بخفّة. رجاؤنا وصلاتنا للبطريرك الجديد أن يقود الجامعة والمعهد إلى ما فيه اتّزان رصين وتكامل تجسّديّ، يشدّنا، في آن، إلى روح التّراث الكنسيّ، وإلى روح علميّة جدّيّة مطوَّعة لخدمة إنجيل الخلاص. هذه، لعمري، مهمّة كأداء. لكن، بنعمة الله والتّأنّي والثّبات، نرجو أن يأتي بنا غبطته، والمجمع المقدّس، إلى حيِّز البشارة حتّى لا نَتْفَهَ، كنسيًّا، تَفَهًا!
وما دام الكلام على المجمع المقدّس، فحقٌّ القول أنّ المجمع بحاجة إلى أن يعود مجمعًا شورانيًّا. ليس قفير النّحل ملكةً، بل ملكةٌ وذكور وعاملات، وإلاّ لا عسل يُنتَجُ. وإلى العمل المشترك، كفانا إغضاء عن الشّرع الكنسيّ واستنسابًا. ثمّة فوضى في الممارسة ينبغي وضع حدّ لها. واختيار الأساقفة لا يجوز، بعدُ، أن يستمرّ اعتباطًا. الأساقفةُ يُختارون بأشدّ الحرص! مستوى التّعاطي الأخلاقيّ لا يجوز الرّضى بتدنّيه. نحن لا نخفي عيوبنا بحجّة أنّنا لا نريد إعثار النّاس، بل نصلح ما أمكن إصلاحه، وما لا يقبل الإصلاح نستأصله حتّى يتأدّب الصّغار بما للكبار. النّاس يعرفون أكثر ممّا نظنّ أنّهم يعرفون. فإذا ما كان الرّأس مريضًا فلا يحقّ التّسآل بشأن مرض الأعضاء. أي مَثَلٍ نقدِّم؟! إن لم نتأدّب ما أمكننا أن نؤدِّب أحدًا. لذا لا بديل عن العفّة بين الرّعاة إلاّ العفّة! بقداسة الرّعاة يتقدّس المؤمنون. في هذه الخانة قول القدّيس غريغوريوس النّيصصي، في جنازة القدّيس ملاتيوس الأنطاكيّ: “لا دروسه فقط ولا كلامه وحسب، بل مجرّد مرآه كان كافيًا لجعل تعليم الفضيلة يخترق النّفوس”. كرة الثّلج، إذ ذاك، تتعاظم. متى استقام أمر المجمع المقدّس استقام أمر الكهنة، وبالكهنة الرّعيّة. إذ ذاك، شعب الله يُبنَى. هذه الكرة إن لم يكوّنها غبطته ويدحرجها فمَن سيفعل؟
ثمّ، في شأن شعب الله، إنماءُ الشّعور بكلّ مؤمن خفير في كنيسته يحتّم السّهر على تمرّس شعب الله وإشراكه في كلّ عمل في الكنيسة، أطفالاً وشبّانًا وكهولاً ومسنّين. الكنيسة لا مَن يمثّلها إلاّ مَن يحمل كلمة الله في صدره، راعيًا أو مَرعيًّا، صغيرًا أو كبيرًا، في منصب أو في لا منصب. من هنا أهمّيّة تطبيق قانون المجالس تطبيقًا جدّيًّا لائقًا، وتشجيع واحتضان حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة ومدارس الأحد وسائر الهيئات والجمعيّات الرّعائيّة وتوجيهها حسنًا بمحبّة وجدّيّة. أقسى الهرطقات، اليوم، في المستوى العملانيّ، أن يَعتبر أكثر المؤمنين أنفسهم غير معنيّين ولا مبالين بشؤون الكنيسة، لأنّ الكنيسة من اختصاص بعض الرّعاة والنّخبة. حتّى متى يستمرّ التّغافل عن المؤمنين في التّعاون، على شؤون الكنيسة، والرّعاة؟! مَن لا يعرف علّموه، ومَن يعرف استفيدوا منه حتّى يبني أحدنا الآخر ويساهم الجميع في خلاص الكلّ وبناء جسد المسيح. رجاؤنا وصلاتنا أن يؤازر الرّبّ الإله البطريرك الجديد حتّى نستعيد “قفير النحل” بجملته، ولا نبقى محكومين بأكل الفتات، فلا يعود لروح الرّبّ دور ولا للمواهب الإلهيّة أن تتفتّح!
الحِمل ثقيل؟! طبعًا ثقيل! ولكن على قدر ما تكون الشّهيّة في احتضان عمل الله، تدفق النّعمة على الّذين يعملون!
نسأل الرّبّ الإله أن يعين غبطة بطريركنا الجديد، أدامه الله سنين عديدة، في قيادة المسيرة إلى أرثوذكسيّةٍ أنطاكية تراثيّة تتجدّد في الرّوح والحقّ، برحمة الله!
بارك يا سيّد