ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة قداس الميلاد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في وسط بيروت. بعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى سيادته العظة الاتية:
“المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”. هذا ما نرنمه في هذا اليوم المبارك، ذكرى ولادة ربنا وإلهنا يسوع المسيح بالجسد. هذه الذكرى هي عظيمة بالنسبة لكل إنسان مسيحي مؤمن لأنها تمثل بداية خلاصنا. يقول بولس الرسول في بدء رسالته إلى العبرانيين: “الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثا لكل شيء، الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره، بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي” (عب 1: 1-2)”.
اضاف: “ابن الله الوحيد، كلمة الله وبهاء مجده، أخلى ذاته آخذا صورة عبد، لابسا جسدنا ما عدا الخطيئة، من أجل أن ينتشلنا من عمق الخطيئة إلى ضياء الملكوت. الإله صار إنسانا لكي يصير الإنسان إلها كما قال الآباء. تجسد ليرفعنا. والتجسد بالنسبة لنا نحن المسيحيين قد حصل فعلا في التاريخ. إنه فعل حقيقي في زمن معين، وقد غير وجه العالم وحول مسيرة الإنسان. فبعد الحروب والويلات، وبعد العبودية والعبور، وبعد الطغيان والتسلط، ولد ابن الله في مغارة ليعلم البشر التواضع، وبذل نفسه من أجلنا ليعلمنا المحبة والتضحية، ونادى للمأسورين بالحرية وللعميان بالبصر وللمظلومين بالعدالة ولمنكسري القلوب بالشفاء (لوقا 4: 18-19)، وعلم أن من وضع نفسه ارتفع ومن رفع نفسه اتضع (لوقا 18: 4). إلهنا المتجسد كسر جدار العداوة بين الإنسان وخالقه وأصبح الإنسان متجها نحو إله أحبه ومات من أجله، وصار يجاهد من أجل الإتحاد معه والتمثل به: “فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء” (أفسس 5: 1). صرنا جميعنا أبناء لله ولم يعد هناك يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكر أو أنثى، لأننا جميعنا واحد في المسيح يسوع (غلاطية 3: 28)”.
وتابع: “لقد رتلنا: “ميلادك أيها المسيح إلهنا قد أطلع نور المعرفة في العالم”. ميلاد المسيح أنار العالم وأبان عظمة الإنسان. تجسد الله أعاد إلى الإنسان قيمته. لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله. بسبب الخطيئة شوه الإنسان صورته فتنازل الله، واتخذ الإنسان ليعيد إليه بهاء الصورة. هذا يعني أن الإنسان قيمة بحد ذاته، وأنه عزيز في عيني الرب، وأن ثمنه غال جدا لأنه اشتري بدم ابن الله. من يؤمن بالله يعرف هذه الحقيقة. المؤمن يعرف أن الإله المتجسد أعتقه من عبودية الخطيئة إلى حرية أبناء الله، لذا المؤمن إنسان حر ويحترم حرية الآخرين لأنه يرى في وجه كل إنسان صورة الله. ومن كان الله في قلبه يكون على صورة إلهه وديعا محبا متواضعا بعيدا عن الحقد والعنف والظلم والقتل والتسلط والنميمة والإستعباد وكل آفة تولدها الخطيئة في الإنسان”.
وقال: “ربنا رب السلام فلم كل هذا العنف على الأرض؟ إلهنا إله المحبة والمغفرة والتضحية، فلم الحقد المحيط بنا، ولم التسلط والطغيان؟ وكيف ينصب الواحد منا نفسه ديانا للآخر وقد أوصانا ربنا “لا تدينوا لكي لا تدانوا” (يوحنا 5: 7). هذا يعني أن تعاليم المسيح لم تعد تنير دربنا، وأننا هجرناه وخالفنا وصاياه. ألم يقل للذين أرادوا رجم المرأة الخاطئة من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر؟ من منا بلا خطيئة؟ ومن هو كامل غير الله؟ هذا السؤال أوجهه لجميع إخوتي في هذا الوطن، وأقول للجميع إتضعوا وانظروا بمحبة وانفتاح إلى الآخر، متخلين عن كل فكر مسبق وعن كل كبرياء وأنانية وحقد ومصلحة، ولنعمل جميعنا من أجل هدف واحد: خلاص نفوسنا وخلاص وطننا”.
وسأل “إلى أين تريدون أخذ لبنان؟ هذا اللبنان الذي كان كجنة الله على الأرض، يقصده الجميع من كل حدب وصوب، ويتغنون بجماله ومزاياه، أصبح هو الصحراء في هذه المنطقة التي تحولت صحاريها إلى واحات صارت قبلة الأنظار، ولبنان ما زال ينوء تحت أثقال نحن، بنيه، نحمله إياها لأننا نتخذه مطية من أجل تحقيق أهدافنا وأهوائنا على حساب وطننا والمواطنين”.
وقال: “قلق كبير ينتاب اللبنانيين في هذه الأيام، قلق على الوطن وعلى المصير. يكفي ما نسمعه من أبنائنا الذين يتحسرون على الزمن الماضي الذي كانوا يشعرون فيه بفرحة الأعياد. الكل يشكو الجمود والغلاء وقلة الموارد بالإضافة إلى الخوف من المستقبل وما تخبئه لهم الأيام. الجميع يعانون لكن مشكلتنا أن بعضنا يريد الحل على حساب بعضنا الآخر إن من الناحية السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية، غير مدركين أو متناسين أن الإنهيار لن يطال الجزء بل الكل، وأن الخسارة ستشمل الجميع”.
اضاف: “فيا أحبة، يا إخوتي اللبنانيين، كونوا واعين للمخاطر المحدقة بنا. لنبعد الظلمة عن قلوبنا والسواد عن أحلامنا، ولنسع معا إلى اقتلاع كل ما يسيء إلى وطننا والمجتمع. نحن بحاجة إلى صفاء القلوب والنفوس، فليكن هذا العيد المبارك حافزا لنا للتخلي عن كل ما يعيق لقاء واحدنا بالآخر، ولنتعاون جميعنا، مسؤولون ومواطنون، قطاع خاص وقطاع عام، شبان وشيب، رجال ونساء، حزبيون وغير حزبيين، لنتعاون من أجل خلاص لبنان. لنعمل جميعنا بتواضع وشفافية من أجل إطلاق المشاريع الإنمائية بعيدا عن المحاصصة والكيدية. ولتكن الدولة للجميع ومع الجميع، خلية عمل متواصل هدفها إنقاذ لبنان. ولتحاول جاهدة الإفادة من خبرات الجميع، وجيل الشباب بصورة خاصة. لنعمل على إدماجهم في المجتمع من خلال حثهم على المساهمة في صنع القرار، ومن خلال تفعيل عمل الإدارة بملء الشواغر، ولكن أيضا باعتماد الثواب والعقاب لكي يستقيم عمل هذه الإدارة، ونكون بذلك قد مشينا الخطوة الأولى نحو الإصلاح الذي يبتغيه الجميع أو على الأقل يطالبون به”.
كما سأل “وقف الهدر والسرقة والسمسرة وما شابه، ألا يؤمن للدولة موارد تستخدمها حيث يجب، وبعدالة تجاه أبنائها؟ الحوار وقبول الآخر والتنسيق والشراكة والتعاضد أسس صلبة لبناء مجتمع منتج. كل المواطنين سواسية في الوطن. هذا ما يجب أن يكون. والدولة للجميع. هذا أيضا ما يجب أن يكون، بالفعل لا بالقول. فلنمسك ألسنتنا عن الكلام الكثير ولنعمل سواعدنا معا من أجل تحقيق طموح الجميع: جعل لبنان وطنا لجميع أبنائه يفتخرون به ويستميتون في الدفاع عنه”.
وقال: “في هذا اليوم المبارك أسأل رب السماء والأرض أن يسكب سلامه في قلوبنا، وفي أرضنا، وفي العالم أجمع، وأن يحمي وطننا من كل شر، وأن يلهم حكامنا القيام بكل ما هو صالح وبناء، كما أسأله أن يحفظكم جميعا ويجعل أيامكم مباركة بحضوره الدائم”.
وختم: “في هذا العيد المبارك نفتقد هذه السنة أبانا المثلث الرحمة البطريرك اغناطيوس الرابع الذي كان مثال الراعي الصالح طيلة خدمته كنيسة الرب، وقد كرس نفسه، بمحبة ووداعة وصبر، لرعاية شعب الله ونشر البشارة. نسأل الرب الإله أن يجعل غبطته في مصاف القديسين والأبرار كما نسأل غبطته أن يتشفع بنا لدى الرب الإله لكي يرحمنا. كذلك نتمنى لغبطة أبينا يوحنا العاشر الذي أنعم الروح القدس به علينا، القوة والعمر المديد لكي يقود كنيستنا في هذه الأيام العصيبة إلى حيث يشتهي الرب. بارككم الرب الإله وأعاد عليكم هذا العيد المقدس إلى سنين عديدة”.