الفقراء

mjoa Saturday January 5, 2013 141

في انجيل متى ورد “طوبى للمساكين بالروح” ويعني، حسب آبائنا، المتواضعين ويجمع علماء التفسير على ان هذه الآية تخفيف للحدة الواردة عند لوقا: “طوباكم أيها المساكين” (لوقا 6: 2). ويقول المفسرون إن هذه الصياغة هي الاقدم بمعنى انها هي التي تفوه بها المعلم. مهما يكن من أمر التفسير من الواضح ان للمحتاجين مكانة عند يسوع الناصري خاصة اذ يقول “المساكين يبشرون” (متى 11: 5).

وكأن واضع النص أراد ان الانجيل هو لهم أو أنهم هم الذين يتقبلونه لانهم هم الذين يطلبون ملكوت السماوات. وكأنه يقول ايضاً إن للاغنياء ملكهم لانهم اتخذوا أرزاقهم مرتعًا لهم ومكان ارتياحهم وانبساطهم فان المال مركز عواطفهم وعليه يتوكلون. ففي مثل الغني ولعازر، الغنى مرادف التمتع والانبساط أي مدى الراحة وهو يحد صاحبه أو يحدده أو يحتويه.

ولكن ما الفقر؟ أليس هو الهبوط إلى وضع معاشي ضعيف في مجتمع معين. ولكن ما الضعيف؟ هناك مصطلح جديد نسبيًا وهو عتبة الفقر الذي تقل فيه موارد الانسان بحيث يكاد لا يموت جوعًا أو بحيث لا يستطيع ان يرتزق مما يكفيه لاعالة عائلته طعامًا وكساء ومأوى وتعليم أولاد.

هذا الوضع يجعل الواقع فيه ينتمي إلى فئة مجتمعية يعلوها المستكبرون ويجعلون منها مرتبة هامشية وليست شريكة في الانتاج والحياة السياسية الفاعلة. وتكون الدنيا في تصنيف الناس جميعًا مؤلفة من أغنياء وفقراء.

جاء كارل ماركس يسعى إلى ما اعتبره ميزان العدل وانصاف معقول ولهذا السبب دعا إلى الغاء الطبقات بعد ان كان المجتمع الأوروبي مجتمع طبقات الفروق فيه صارخة. هو ما كان يحلم ان يكون للناس سوية اقتصادية ومجتمعية واحدة لكنه رغب في تعايش معقول ليس فيه اذلال بسبب تباين مستويات العيش بصورة فاحشة.

لا يبدو أنّ الدعوة الماركسية نجحت في التحقيق اللينيني وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي واضح ان الرومنسية الشيوعية غابت عن ملايين الناس الذين غذتهم عمالاً كانوا أم مثقفين. غير ان الطموح إلى عدالة معقولة لا يزال نفحة عند الكثيرين.

***

واضح عند المتتبعين ان المسيحية لا تقوم على نظام اقتصادي ولا تدعو إلى نظام. فاذا كانت الاشتراكية تندّد بالملكية الفردية لوسائل الانتاج والتبادل وترفض عدم التساوي المجتمعي فيسوع الناصري لم يضع نفسه في هذا الاطار لانه اطار التنظيم الاجتماعي، والمسيحية دعوة في سبيل الفقراء أو فيها هذه الدعوة لكنها ليست نظامًا يحقق في ثورة أو تنظيم اجتماعي بلا ثورة كما في البلاد السكندينافية.

الهاجس الثوري أو الانقلابي خارج عن المسيحية التي هي دعوة. هذا ما شاءه يسوع الناصري الذي ما أراد ان يستقوي على أحد أو ان يفرض نظامًا بالقوة وحتى بالدعوة اليه. هذا مما يجعلنا نفهم ان المسيحية الرسولية ما التصقت بدولة ولا انفصلت عن دولة. عند ظهورها كان اتباعها من الامبراطورية الرومانية وما سعت هي إلى انشاء كيان دولتي خارج الامبراطورية لان الناصري اكتفى بتبيان ملكه على انه ملكوت الله في قلوب الناس.

ليس عنده فتح بلدان عنوة أو سلامًا. هذا ما في أيامه كان متروكًا للامبراطورية الرومانية. وبعد موته، في عهود الكنيسة، ما كان انتشار ملكوته في المبدأ متعلقًا بسياسة. هو أراد ان يعمل بروحه وانجيله ومملكات العالم متروكة لتقاربات الزمان ونحن أتباعه لسنا منها وإن كنا فيها وملكوت المسيح هو القلب.

***

لا يصور إنجيل يسوع المسيح الاغنياء على انهم بلا قلب لكنه يعلّم ان الغنى خطر على الانسان. الناصري يحذر من الاخطار الروحية اية كانت، من استعباد نفسك لاي مخلوق أو مصطنع ولهذا قال: “لا تقدرون ان تخدموا الله والمال” (متى 6: 24). هناك عبادة الله الواحد الاحد. والعبادة والعبودية واحد في اللغة. ليس لان الله ارادك عبدًا له، لانه قال انك ابني. ولكن حسب تفسير أحد كبار الروحانيين عندنا انت تستعبد نفسك لله بالعشق.

فاذا صرت بالحب عبدًا لله يتعذر عليك ان تصنع لنفسك رباً آخر.

ما من شك ان المال أو كل ما تقتنيه يأسرك أسراً رهيباً. اذ ذاك لا يبقـى لك حرية تعبد الله بها. انت تسلم نفسك له وحده. وهذا هو شرط العشق، فليس اذًا من محبوب آخر. من هنا انه لم يبق في القلب محل للمال وليس من عبودية لانسان. ان تحب البشر حسب قول الناصري: “أحبب قريبك كنفسك”، شيء آخر انه هو العطاء حتى النهاية أي حتى الموت. هذا يصطدم كليا بعشق الأرزاق وما اليها.

***

هل الأغنياء فئة ندّد بها المسيح؟ في الواقع الناصري تكلم عن فئة من الأغنياء كانت عاشقة لأموالها، غير مكترثة لوجود فقراء، غير متعاطفة وإياها، فاصلة نفسها عنها. هم يسوع الناصري ان نكون مجتمعاً واحداً مع كل البشر لا يفرقنا مستوى اجتماعي بحيث نفهم اننا مؤتمنون على ملك الله.

أموالنا ليست لنا. نديرها فقط لمنفعتنا ومنفعة الناس. المسيحية لا تشرع لاقتناء المال ولا لتوزيعه. هي تقول لكل انسان: الانسان الآخر أخوك تعامله بما لك كأخ.

فاذا تصرفت هكذا لا يبقى شرخ بينك وبينه ولا تتصرف باذخاً ومترفاً لكنك تتصرف حنونا ولا تجعل قريبك يقترب من الموت بالجوع أو ما يشبه الجوع لأنه بات من لحمك وعظامك. فما جاء اليك بالوراثة أو العمل ينفقه المحتاجون اليه وتسهر انت على حاجتهم وتخدمهم كما لو كانوا المسيح.

المسيحية تملي عليك ان تعطي من حولك نسبة من ثروتك. هي تجعل قلبك لا يحس ان له شيئاً في هذه الأرض. اذ ذاك تصل إلى وقت لا تؤمن فيه بالمخاصصة ولكن بالمشاركة.

المشاركة تعني أنك لا تقدر ان تقول أنا وحدها لكنك تقول: أنا وأنت أي تقول فعلاً “نحن”. ترجمة ذلك إلى واقعنا المعيش أن نحب الجماعة التي أنت قائم بها وهي قائمة فيك.

ستبقى فروق. “الفقراء معكم في كل حين أما أنا فلست معكم في كل حين”. هذا لا يعني ان يسوع يقبل بوجود جائعين. هو يريدنا ان نتعامل والوضع الاجتماعي على ان نقيم العدل وان نقيم فوقه المحبة.

لم يكن يسوع ماورائياً أي مرجئاً الخير. “اليوم ان سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم”.

المحبة ملكوت الله.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share