لما قال الملاك لمريم: “افرحي يا ممتلئة نعمة” أراد ان النعمة وحدها ساكنتها أو انها قائمة فقط في حضرة الله، ذلك ان ليس لأحد أو شيء حضرة لا يمسها هو. ان لم يكن كل ما فيك ترجمة له فهو للعدم. فاذا قبلنا ان الرب في كل شيء نعني انه يجعل كل شيء تحت ربوبيته وخارج هذا لست طريح العدم.
تطوعنا لله يلغي الذاتية المنكمشة فيأتي وجودنا، اذ ذاك، توجها اليه بعد ان كان توجّها منه الينا. أجل باتحادنا به لا يلغي ذاتنا اذ يبقى الناسوت فينا غير انه يصير ممتلئا لاهوتا. أجل تبقى الذات مألوهة كما يقول الإسلام أو مؤلّهة كما تقول المسيحية ولا سيما الشرقية منها. لا تلغى بشرية الإنسان من حيث انه وجود مخلوق لكنك ترث فيها منذ هذا العالم المجد الإلهي غير المخلوق منذ هذا العالم.
ملء الوجود هو هذا التلاقي الحاصل في قلب الله بين الخالق والمخلوق فلا يستحيل الواحد الى الآخر لكنه يساكنه. هذا ما يعنيه حلول الله في الانسان بلا حلولية. فاذا كنا ورثة الله في كل بهاء لا مجال للتباهي بل تأكيد للكلمة: “من افتخر فليفتخر بالرب” فإن عرفته هكذا يكون كل جمال فيك نازلا عليك وليس لك فيه أي فضل.
الإصرار على الأنا واستقلالها في تاريخ الحضارات من طريق العلوم والفلسفة والفن أعطى الإشارة الى ظهور الإنسانوية في الغرب فكان مثلا الجسد العاري في الرسم فقتل رمزية التصوير وبطل الانسان يعي نفسه مخلوقا على صورة الله. اخذ الإنسان يعبد جسده ويسكر بجمال ولا يعرف نفسه وريث الرب ووصل في الفن الحديث الى الغاء الوجه في القامة البشرية والوجه كان من الايقونة إطلالة الله.
ضد نعمة هذه الاطلالة سقطة التباهي الذي يحصر الانسان في ترابيته وهي بطبيعتها غير ناهدة الى فوق. التباهي اعلان التفه البشري بدءا من ادعاء الجسد جماله. هذا ليس بشيء ان لم يكن إقرارا بجمال الله وإشعاعه علينا. هذا هو الفرق بين الايقونة واللوحة ان الايقونة تقول الرب واللوحة تقول الجسد البشري أو الطبيعة بلا إشارة مقصودة الى ما فوقهما.
***
هذا هو عصر النهضة الغربية التي أصرت على ان تقطع العلاقة بين الطبيعة وخالقها. في الحقيقة التاريخية ان الفن الاوربي منذ القرن السادس عشر هو الذي قال الالحاد. الانسان لم يعبر عنه، بدءا بفمه ولكن بصناعة الجمال وظهر الالحاد بالكلام في ما بعد.
غير ان الحياة ليست اولا فلسفة بل سلوك. ماذا يعني افتخار الحسناء بجمالها في عمق التحليل. في آخر مطاف الإغراء هو استدعاء الناس الى عبادتها وفي تحديد المعنى الى عبادة جسدها. لا يمكن ان يعني التباهي الا التماس العبادة التي هي شرك اذ يستحيل عليك كيانيا ان تجمع بين عبادتين.
المال أفتك من الجسد فقد قال عنه الرب انه “عبادة وثن” (كولوسي 3: 5). لقد جعلك الإله تلتقيه لتبدده حسبما نطقت به الكتب المقدسة: “بدد أعطى المساكين فيدوم برّه الى الأبد” ( مزامير 112: 9). الجمال والمال مملوكان يصبحان ان قبلتهما مالكين في كيانك حتى تصير حريتك مسلوبة حقا. كل هوى من أهوائنا لهو عن “النعمة المخلصة لجميع الناس” (تيطس 2: 11).
المؤمن الجميل الطلعة لا يأبى لمديح فقد لا يعي عطية الخلق هذه أو لا ينشغل بها ويقبل ذهابها اذا ما حلّ. هو لا يعرفها ملكا له ولا ملكا لأحد فأنه فقير فقط الى ما ينزل عليه من فوق.
لعلّ أقوى المواهب إغراء الذكاء لأنه الالتماع الأكبر لكونه مسنودا الى شيء عظيم ولكونه ينعكس فيه العقل الإلهي الذي حامله المسيح. كل فطن من الناس اية كانت ديانته قريب بكينونته من الله أكان عظيم الإيمان أم ضعيفه. بصورة ساطعة يتجلّى الله فيه وقد لا يعلم. اذا قيس بالثراء المادي أو الجمالي يكشف الله كما لا تكشفه عطايا أخرى. وبخلاف المال والجمال لا يبقى ملكا لصاحبه اذ من طبيعته ان ينتشر لأنه يؤخذ.
***
هل يعني كل هذا الا يعرف الإنسان ميزاته أو حتى فضائله الروحية. الزاهد بماله يدرك هذا لكن الزاهد ان كان مؤمنا حقا لا ينسب الى ذاته فضلا ويعترف فقط بالهبة الإلهية. كذلك يصعب على الحسناء ان تنسب جمالها الى الله لكنه هو قادر ان يجعل في نفسها هذا الايمان وعند ذاك، تكون أدركت من القداسة مبلغًا.
الأعلى من ذلك ان يقول المثقف الكبير انا لست بشيء. كل ما يحتويه عقلي بعضه رياضة لكن الاحساس مسكوب فيّ من فوق ولن أبدده لتقوم الحكمة وطوبى لذلك الذي يذهب مما عرفه فيّ الى ذلك الذي عنده كل علم.
“ويكون المنتهى حين يسلم المسيح الملك الى الله الآب الذي أخضع كل شيء للمسيح”. بعد هذا يكون “الله كل شيء في كل شيء” (راجع 1كورنثوس 15: 24-28). كل ما أعطينا من مواهب كان من المسيح والمواهب بطبيعتها آتية منه. وان لم نعترف بذلك فلسنا على شيء. ولكن اذا آمنّا ان الله كل شيء في كل شيء ندرك ايضًا انه كان في حسننا من اية طبيعة كان واننا فتكنا الحجب المكونة من مال وجمال وعقل لنشاهد الكلمة الذي كان في البدء.