الهلاك الأبديّ أكسيرًا!

mjoa Monday January 14, 2013 66

 في مقالة سابقة تحدّثت عن الحياة الأبديّة. قلتُ، يومها، المحبّة وحدها أبديّة، وأبديّتها أبديّة ابن الله المتجسّد. هذا كان يمكن أن يطرح السّؤال: ولكنْ ماذا عن “الهلاك الأبديّ”؟ أين الهلاك من المحبّة ما دام ثمّة هلاك أبديّ؟ هذا سؤال لا جواب، عندنا، واضحًا بشأنه لا في التّراث، بعامّة، ولا في الكتاب المقدّس، بخاصّة. ولكنْ، هناك التماعات تُسقط بعض الضّوء عليه، سواء في ما ورد في الكتاب أم في خبرة بعض القدّيسين وأقوالهم.

     الحديث عن “الهلاك الأبديّ” نلقاه في رسالة تسالونيكية الأولى (1: 9). يوحنّا الحبيب، في إنجيله، يتكلّم لا فقط على قيامةٍ للّذين صنعوا الصّالحات، يسمّيها “قيامة الحياة”، بل، أيضًا، على قيامة للّذين عملوا السّيّئات، يسمِّيها “قيامة الدّينونة” (يوحنّا 5: 29). هذا يعني أنّ الّذين صنعوا السّيّئات لا يفنون، كأنّهم لم يكونوا، بل يقومون في الجسد، في القيامة العامّة. وهذا يعني، أيضًا، أن “الهلاك الأبديّ” هو استمرارُ وجودٍ من نوع ما، مختلف عن الحياة الأبديّة، وليس إضمحلالاً بحال!

     أيّ نوع من الوجود تَلقى “الهلاكَ الأبديّ” عليه؟ النّصوص تفيد أنّ الهالكين يُلقَون في “الظّلمة الخارجيّة” (متّى 8: 12). هناك يسود البكاء وصرير الأسنان (المصدر عينه). وهناك تستقرّ نار أتّون لا تُطفأ، ويخرج دود من الهالكين “لا يموت” (مرقص 9: 43 – 44).

     بالنّسبة للظّلمة الخارجيّة، الظّلمة هي الغربة الكاملة عن النّور. فاعلو الإثم يُحرَمون نورَ الله، اللهَ النّور، كلَّ بَرَكة، وكلَّ تعزية. قبل القيامة العامّة يشرق الرّبّ الإله شمسه على الأشرار والصّالحين، ويُمطِرُ على الأبرار والظّالمين، لعلّ الأشرار، بطول الأناة، يرعوون والظّالمين يتّعظون. أمّا، في ذلك اليوم، فلا ما يندّي لهيب العذاب الّذي يضرب الأثمة (لوقا 16: 24)، ولا ما يدفئ الصّقيع الكامل الّذي يشملهم. والظّلمة الخارجيّة تمثّل الحرمان الأقصى من حضور الله. فاعلو الإثم يقيمون خارج نطاق الحضرة الإلهيّة. عمليًّا، في العدم الكيانيّ، ولو استمرّوا في الوجود. وهذا أقسى من العدم عينه. لذا قال الرّبّ يسوع عن الرّجل الّذي به يُسلَم ابنُ الإنسان، أي يهوذا الإسخريوطيّ: “كان خيرًا لذلك الرّجل لو لم يولَد” (مرقص 14: 21)!

     كلّ هذا يطرح السّؤال: ما قيمة وجود الأثمة إذا ما كانوا ليقوموا إلى هلاك أبديّ؟ سهلة الإجابة أن ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد، كأئنًا ما كان المعنى، أو أنّ الأثمة يجنون ثمرة ما اقترفوه، أو أنّ الله يعاقِب الآثمين، أو أنّ هذا هو ما اختاره الأثمة لأنفسهم وأنّ الله يترك لهم الحرّيّة في أن يحيكوا مصيرهم بأنفسهم، أو أنّ الأثمة تعاقبهم آثامهم من دون الله، أو ما سوى ذلك. الله محبّة. كلّه محبّة. فكيف تتجلّى محبّة الله في كلّ من تلك الإجابات؟ هذا هو السّؤال! أعرف أنّ الله يحترم حرّيّة الإنسان إلى المنتهى؛ ولكنْ إذا ما أساء الإنسان استعمال حرّيّته وشرد فسلك في الضّلال وانتهى به المطاف إلى الضّياع الكامل وصار في التّهلكة، أفيرضى الله ويكتفي بأن تستقرّ خليقتُه في الظّلمة البرّانيّة، من ذاتها، احترامًا لحرّيّتها؟! كيف نوفِّق، إذ ذاك، ما بين محبّة الله الّذي يشاء أنّ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون – لاحظ، يقول: “الجميع” – واحترام الله لحرّيّة البشر حتّى لو رغبوا في أن يُلقوا بأنفسهم في جهنّم؟ لا يمكن، إطلاقًا، أن تكون الحرّيّة الّتي ينفحُها الرّبُّ الإله الإنسانَ خارج نطاق محبّته له. حتّى بولس الرّسول عبَّر عن هذه المحبّة بقوله عن الضّالين من آل إسرائيل: “إنّ لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع. فإنّي كنتُ أودّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رومية 9: 2 – 3). فهل الله أقلّ محبّة من عبده بولس المتكلِّم بروحه؟! ما دام أنّ الله محبّة فلا يمكنه لا أن يُسرَّ ولا، حتّى، أن يقبل بهلاك صانع الإثم! على هذا قيل، بوضوح، إنّ الله لا يُسرّ بموت الخاطئ إلى أن يرجع ويحيا (حزقيال 33: 11). كيف يكون الله محبّة ويترك أيًّا كان، من خليقته، في عذاب أبديّ؟! اللاّمبالاة غير واردة، والانتقام غير لائق بمحبّة الله. ماذا يبقى إذًا؟ أنّ الله عاجز؟! طبعًا لا! فإنّه قيل: كلّ شيء مستطاع عند الله. إذًا، الله يريد الخلاص للجميع وهو قادر، بطرق لا يعرفها إلاّه، أن يخلِّص ما قد هلك! هذا معناه أنّ الخلاص حاصل ولو كنّا لا نعرف كيف. فلا يسعنا، والحال هذه، إلاّ أن نتصوّر قلبَ الله، بمعنى، في وجع دائم، وسعي دؤوب، وعدم الرّاحة، إلى أن يستعيد الأثيمَ مبيَّضًا كالثّلج! إذا ما كان ليصير فرحٌ عظيم، في السّماء، بخاطئ واحد يتوب، أفيُعقل أن يموت “أَرَق” الرّبّ لاستعادة مَن رقدوا في الخطيئة من خلائق أحشائه، وأن “ينطفئ” فرحُه باسترجاعهم بعد أن يكونوا قد رقدوا؟! مستحيل!!!

     الخلاص، إذًا، حتميّ للجميع! محبّة الله وقدرته لا تتركان، في هذا الشّأن، موضعًا للشّكّ!

     إلامَ يؤول بنا هذا التّحليل؟ إلى اعتبار ما يُسمَّى بـ”الهلاك الأبديّ” تدبيرًا خلاصيًّا، بمعنى الكلمة، ولو كان ذلك يفوق أفهامنا، من ناحية، وفيه نطالع عتمةً لم يشأ الرّبّ الإله أن يكشفها لنا، بوضوح كامل، لأنّها لا تنفعنا، في طلب وجهه، من ناحية أخرى.

     بعض آبائنا القدّيسين، أمثال القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ والقدّيس إسحق السّوري، مالوا إلى الحديث عن الخلاص للجميع، حتّى للشّيطان! لكن الكنيسة المقدّسة لم تُجِزْ تعليمهم رسميًّا. في موقف الكنيسة حكمة طبعًا. أوّلاً التّعليم في الكنيسة للبناء كائن. الكنيسة ليست مدرسة فلسفيّة فكريّة! ما لم يكشفه الرّبّ الإله لا ننظِّر ونعتمد ما ننظِّره في شأنه قاعدة حياة. هذا قد يقتل، في النّفس، الحاجة والسّعي إلى حفظ الوصيّة وطلب القداسة! هناك ظلمة خارجيّة، لا بدَّ منها، يختبرها الأثمة، وهناك عذاب، وهناك أتّون نار، وهناك دود لا يموت، وهناك صرير أسنان وهناك بكاء! هذا لا شكّ فيه! كيف يمكن أن يكون هذا كلّه للخلاص؟ لا نعرف تمامًا ولم يُعطَ لنا أن نعرف بدقّة! كيف يستحيل “الهلاك الأبديّ” خلاصًا؟! هذا يفوق التّصوّر! الأمر يتعدّانا ولا ندخل في بحثه تخمينًا! ولكنْ، لفتني وأنا أقرأ سيرة القدّيس أرسانيوس الكبير أمر أَعتبرُ أنّه ربّما يشكِّل بعض مفتاح للباب الموصَد الكبير لتدابير الله الأخيرة، في هذا الشّأن. فقد ورد أنّه كلّما جلس ليعمل بيديه، كان يجعل في حضنه منديلاً يلتقط به الدّموع الّتي كانت تنهمر من عينيه دون انقطاع. فلمّا رآه الأب بيمن، قال: “طوبى لك، يا أرسانيوس، لأنّك مكافأة على الدّموع الّتي ذرفتها في الدّهر الحاضر، لن تحتاج إلى دموع في الدّهر الآتي”! لاحظوا ماذا يقول! “لن تحتاج إلى دموع في الدّهر الآتي”! هناك، للأكثرين، إذًا، حاجة للبكاء، في الدّهر الآتي، لا فقط في الدّهر الحاضر! هذا لأنّه بالدّموع يُستعاد التّخشّع كاملاً وتُغسَل الخطيئة! هذا في خبرة الآباء القدّيسين! أيُعقل أن يكون البكاء، الّذي هو واحد من مفاعيل الهلاك الأبديّ، أيضًا، مدخلاً للخلاص؟! لأوّل وهلة، تبدو هذه الدّموع وكأنّها دموع ندم، دموع خوف، دموع حسرة! هذه، طبعًا، حال داخليّة، فيها نَخَس كيان، ووجع قلب، وحتّى عناد في الموقف! ولكن، بإزاء الألم العميق، الألم لا من جرّاء حالة مفروضة من الخارج، يلقينا فيها الرّبّ الإله عقابًا، كالمطهَر أو ما يعادله – وهذا لا ينسجم، بحال، ومحبّة الله الّتي يستحيل عليها التّسبّب في إيلامِ خليقةِ الله أو تعريضِها للتّعذيب – بل من جرّاء الحال الكيانيّة الدّاخليّة الّتي أوصلت الخطيئةُ الإنسانَ إليها، أقول بإزاء هذا الألم العميق، لعلّ نخَس الكيان ووجع القلب، وحتّى العناد في الموقف، يستحيل تخشّعًا، كما يستحيل الفحم ماسًا، والمضاد الحيويّ عقارًا! وعلى هذا يُخرج الإلهُ الكلّيُّ القدرة من الغثّ ثمينًا، كما أخرج من الموت قيامة ومن سمّ الحيّة دواءً لشفاء البشريّة المعتلّة! فإذا ما صحّ ذلك يكون الخلاص كامنًا في سرّ الدّموع بمعناه الكيانيّ العميق! وإذ ذاك نفهم ما خبره وردّده قدّيسونا، جيلاً بعد جيل، أنّه لا خلاص للّذين لا يبكون! هذا يذكِّر بالقول الأسخاتولوجي المنحى، الوارد في مَراثي إرميا: “صار علينا خوف ورعب، هلاك وسحق. سكبتْ عيناي ينابيعَ ماء على سَحْق بنت شعبي. عيني تسكب ولا تكفّ بلا انقطاع حتّى يُشْرِفَ ويَنظر الرّبُّ من السّماء… دنوتَ يوم دعوتك. قلتَ: “لا تخف” (مراثي 3: 47 – 50، 57)! إذا ما صحّ ذلك تكون أبديّةُ الهلاك ما احتاج المخلوق إليه ليكتمل زمانُ استعادة الكيانِ التّخشّعَ والشّوقَ إلى الله لديه! هذا، في كلّ حال، لا يحدث إلاّ بالنّعمة الإلهيّة المحبّيّة الّتي تعمل، بصورة خفيّة، لخلاص الكلّ؛ فإنّ الله أغلق على الجميع معًا في العصيان لكي يرحم الجميع (رومية 11: 32)! أجل “الجميع”، ويقصد لا أقلّ من الجميع، دنيا وآخرة؛ لا لأنّ أحدًا صالح، بل لأنّ الله محبّة!!!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share