… وكان لا بدّ ليوحنّا المعمدان من أن يُقطَع رأسُه وللرّبّ يسوع من أن يُصلَب. السّبب: تمسّكهما بالشّهادة للحقّ! الحقّ دائمًا، في هذا العالم، ذبيح، لكنّه، أبدًا، “الرّافع خطيئة العالم”!
لا يطلب الشّاهد للحقّ ما لنفسه، لا من قريب ولا من بعيد، لا قليلاً ولا كثيرًا. الشّاهد للحقّ، بكلام كنسيّ، ميتٌ، تمامًا، عمّا لنفسه. حتّى نفسُه، بإزاء الحقّ، يتخلّى عنها. بكلام الرّسول المصطفى بولس إلى قسوس كنيسة أفسس: “لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي حتّى أتمِّم بفرحٍ سعيي والخدمةَ الّتي أخذتُها من الرّبّ يسوع لأشهد ببشارة نعمة الله” (أعمال 20: 24). حقّ الإنجيل أثمن من حياتنا لأنّ فيه لنا حياة أبديّة! إمّا أن يسعى المؤمن، من كلّ قلبه، بنعمة الله، في طلب هذا الحقّ، في كلّ حال، أو لا يعرف الحقّ! الحقّ كلٌّ لا يقبل التّجزئة. لا يكون في الحقّ مَن يطلب ربع الحقّ أو نصفه أو حتّى أكثره إلاّ حبّة خردل من الباطل! لا شركة للنّور مع الظّلمة، ولا للبرّ مع الإثم (2 كورنثوس 6: 14)!
هذا الحقّ، في هذا العالم، الّذي لا يحتمل الحقّ الزّلال، مرفوض ومذموم ومقتول! العالم يبغض النّور، وكذا مَن يعمل السّيّئات (يوحنّا 3: 20). لذلك إن كان أحد لا يبغض، لا فقط أباه وأمّه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، بل حتّى نفسه، لا يقدر أن يكون لي تلميذًا، قال الرّبّ يسوع (لوقا 14: 26). لاحظ ما يقول: لا يقدر! ربّما طلب أن يشهد للحقّ، أو ظنّ أنّه يشهد للحقّ، لكن الحقيقة أنّه لا يستطيع، وهو في هذه الحال، أن يشهد للحقّ. لا فقط لا يطلب ما لنفسه بل يبغض أن يطلب ما لنفسه. ويبغض، تمامًا، حتّى نفسه! يبغضها لأنّه يعي، في العمق، أنّ نفسه لصيقة الخطيئة، واحدة وخطيئته. هو، في الحقيقة، يبغض الخطيئة، لكنّه لا يستطيع أن يتخلّص منها وحدها. راسخة هي فيه لدرجة أنّ الرّسول المصطفى يتحدّث عن “جسد الخطيئة” (رومية 6: 6)، كما يتحدّث عنه باعتباره “جسد هذا الموت” (رومية 7: 24)، ويصرخ عن يأس من نفسه: “ويحي أنا الإنسان الشّقيّ! مَن ينقذني من جسد هذا الموت”! لكنّه يستدرك أنّ الخلاص يأتيه، رغم عجزه هو الكامل، ولكن بمسيح الرّبّ، وعلى هذا يشكر الله. الخلاص من الخطيئة في الجسد. طبعًا، لا يقصد خطيئة الجسد في مقابل خطيئة النّفس، بل خطيئة النّفس والجسد معًا. الجسد بمعنى الإنسان كلّه. كلّ هذا يفضي بنا إلى القول إنّه لا بدّ للإنسان من أن يموت من أجل الحقّ لكي تموت الخطيئة فيه. مسيح الرّبّ قتل الخطيئة في الجسد لمّا أَسلَم نفسه طوعًا للصّلب، وقام في جسد المجد، في اليوم الثّالث. هذا المسار إيّاه هو ما نعتمده. الاعتماد ليسوع المسيح هو اعتماد لموته، أي اعتماد للموت عن الخطيئة على شبه موته. متى فعلنا ذلك صرنا متّحدين معه. الموت عن الخطيئة، ما يعادل الموت من أجل الحقّ، يجعلنا وإيّاه واحدًا. فإن كنّا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته (رومية 6: 5). لا يحرِّرنا ذلك من جسد الخطيئة وحسب، بل يأتي بنا إلى القيامة، إلى الحياة الجديدة، إلى الإنسان الجديد، في مقابل إنسان الخطيئة العتيق. هذا يتكرّس، رمزيًّا، بمعموديّة الماء والرّوح، بالإيمان. بهذا المسار، تمامًا، متى تحقَّق، يصير موتنا من أجل الحقّ ربحًا، ويتحقّق فينا قول بولس الرّسول: “الحياة لي هي المسيح والموت ربح” (فيليبي 1: 21). لم يقل الرّسول بولس الحياة هي من المسيح، بل “هي المسيح”. على هذا، تأتي بنا الشّهادة للحقّ، بالموت، إلى المسيح، فنصير وإيّاه، بالحبّ، واحدًا، وتصير حياتُه حياتَنا! هذا معنى أن نصير “في المسيح”!
وما دام أنّ الشّهادة للحقّ لا تقبل الزّغل، فإنّ على المؤمن الحقّ بالرّبّ يسوع أن يحمل صليبه كلّ يوم ويتبع المعلِّم. المعلِّم معلِّمنا حقًّا إن سلكنا كما سلك، وإلاّ يقول لنا: لست أعرفكم؟ من أين أنتم؟ من أيّ روح تجيئون؟ الصّليب، كلّ يوم، معناه ألاّ تقول الباطل، وأنت تعرف أنّه باطل، لترضي النّاس. إذا كان عليك أن تختار بين أن تكذب، لئلاّ تخسر خبزك، وأن تتمسّك بالصّدق ولو طردوك من وظيفتك، فخير لك أن تبيت ليلك، أنت وعائلتك، جوعى، من أن يكون خبزُك معجونًا بماء الكذب. فإنّ ربَّك يقيتُك، لا محالة، في اليوم الثّالث، لأنّك فعلت ما فعلته من أجل الضّمير. أمّا زيت الخاطئ فلا تدهن به رأسك! “خبز الكذب لذيذ للإنسان، ومن بعد يمتلئ فمه حصًى” (أمثال 20: 17). تربح الخبز وتخسر البَرَكة! وخبزٌ بلا بَرَكة لا يقيت! تكون قد بعت سيِّدك بثلاثين من الفضّة! إذا لم تكن أمينًا في القليل فلا يمكنك أن تكون أمينًا في الكثير. أمانتك لربّك كامنة في امتناعك عن الإساءة إلى ضميرك في المسيح، ولو في قشّة! على نيّة قلبك يَدينك ربّك. لا يُدنيك إليه لمقدار ما تعطيه، لأنّ للرّبّ الأرض بكمالها، المسكونة وكلّ السّاكنين فيها، بل لأمانتك الكاملة ولو في أتفه أمور الدّنيا! وإذا سكتّ عن هرطقة وأغضيت عن قانون، محاباةً للوجوه، أو لأنّك لا تشاء أن يتعثّر ترقّيك في مناصب أهل الأرض، تكون نجسًا في القلب، لا فرق لديك بين حقّ وباطل إلاّ ما يخدم مصالحك ويرضي أهواءك. فإن كان هذا مسيرَك جعلت الإلهيّات كلامًا في الهواء وطبعتَ على خدّ ربّك قبلة كقبلة يهوذا الإسخريوطيّ ليلة أسلمه إلى أعدائه.
صليبك، كلّ يوم، معناه ألاّ تتنازل عن صومك لقاء كسرة خبز إلاّ إذا كنت مريضًا جدًّا؛ وألاّ تتنازل عن صلاتك لأنّك تَعبٌ. الصّوم يقيتك بالنّعمة، والصّلاة تبثّ فيك الرّوح فترتاح. لا تقدِّمن شيئًا على ما لربِّك. كلمة الله فوق كلّ اعتبار! “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله”.
في نهاية المطاف، ولو حرموك، لتمسّكك بالحقّ، ممّا تستأهل، فلا بأس عليك، فإنّك ستسمع، في ذلك اليوم، صوت ربّك يقول لك: “كنت أمينًا في القليل، فأُقيمك على الكثير. ادخل إلى فرح ربّك”. ولو ظلموك فلا تبالِ. الكائن فوق الكلّ هو يبرِّرك متى جاء في مجده. طالما أنت هنا فاحرص على أن تكون مراضيًا لخصمك، أيّ لضميرك في المسيح، ما دمت معه بعدُ، في الطّريق، طريق العمر، لئلاّ يسلمك إلى القاضي وهذا إلى الشّرطي فتُلقى في السّجن، في الظّلمة القصوى. لذا فوق كلّ تحفّظ احفظ قلبك يا بنيّ لأنّ منه مخارج الحياة!