انقضى أسبوع الصلاة من أجل الوحدة بين المسيحيين وبوركنا بالأدعية ورؤية أن الآخر الذي كان أمامنا هو الينا وأنه على رغم النصوص لم يكن آخر بالكليّة على كون كلّ منّا يتحسّس ما يتحسّس من تاريخ قاس واطلالات من السماء مختلفة من انتقادات لقوم آخرين والشوق عند كل فريق يدفع الى العناق لكن التفاسير المتباينة تجعل في العناق تحفظًا بعض الشيء.
سمعت تأفف من هم خارج الاحتراف اللاهوتي: بعضهم يريد الإنصهار اليوم بلا قاعدة ولا شروط. هكذا عندهم أنّه ينبغي أن نذهب معًا الى المائدة المقدّسة ومعناها أننا بهذا الإندماج نقول إننا واحد ولسنا بواحد والوحدة ينجزها الشعب، يقولون وبضغط الجماهير نذوب جميعًا بعضنا ببعض. طبعًا هذه قراءة لبنانية للانقسام القائم. يسوس أحدنا الآخر فتنتهي المشكلة لأن المشكلة كانت عند هؤلاء تسابقًا على الكراسي. إن أحدًا منهم لم يقرأ كتابًا أو مقالاً عن التباعد الذي تم بين الكنائس منذ تسعة قرون بين الشرق والغرب أو منذ خمسة عشر قرنا بين شرق وشرق وربما لم يحسب أحد أن هذه معضلات لا تحل باحتساء القهوة بالمعية.
أنا لا أستخف بالأشواق من هذا الصوب أو من ذاك لكن الخصام ولو داخله توتر أعصاب بين روما والقسطنطنية الا أنه اشتد بسبب من نزاعات فكرية لها أصول هنا وهناك. ولا تنتهي بتوقيع بروتوكولات مصالحة كما بين الدول. نحن بتنا مفترقين جديًا وبعض افتراق تبيّنا سطحيّته كالافتراق بين السريان والأرمن والأقباط من جهة والأرثوذكسيين من جهة. هؤلاء عرفوا أنّ إيمانهم واحد لكن هذا استغرق عقدين من المناظرات العلمية ليظهر. من البديهي اذًا أن تكون عتبة الدخول الى الحل كلمة العلماء وأن يأتي الحل على لسان المجامع المقدسة.
# #
كلّنا يسلّم أنّ ثمّة عوامل غير لاهوتية في الخلاف القائم. فعسير عليّ أن أتصوّر أن يرتضي بابا روما الرؤية الشرقية التي لا تلقي على الرجل وشاحًا إلهيّا أي لا تقول بأنّه مفوّض إلهيّا لرعاية العالم المسيحي بل تقول إن ما يعتبره هو سلطانًا إلهيّا ليس سوى ترتيب تاريخي لحسن تنظيم الكنيسة بحيث أن ما يراه الكاثوليك أولّيّة البابا وعصمته ليس في نظر الشرقيّين عقيدة ملزمة للخلاص. لنفرض أن الغرب اهتدى الى الرؤية الأرثوذكسيّة. يعني هذا أنّ بابا رومية يكون أسقف مدينة رومية ومتروبوليت ايطاليا وبطريرك الغرب. هذا التقلّص ليس سهلاً عليه.
هبوا أنّ البابا صار فقط أوّل البطاركة كما يريده الأرثوذكسيّون ينتج من هذا أنّه يتّصل بمطارنة الشرق مباشرة أي في الندية وأنّ مجمع الكنائس الشرقيّة القائم في الفاتيكان يزول واذًا تصير الكنيسة اذذاك، مؤلفة من كنائس محلية أو إقليميّة كما نادى بها نظريًا مجمع الفاتيكان الثاني وكما تفهمها الأرثوذكسية منذ الألفيّة الأولى فمعنى ذلك أن لا حاجة الى أي “مجمع” أو مكتب يدير أي نشاط على مستوى عالمي عند ذاك تحكم اللامركزية كل العمل الكنسي.
ربما ما كان هم عامة الناس هذا. همّهم الفصح وتعييده. يقولون يريدون أن يكونوا واحدًا. كان هذا هاجس الكنيسة في بدايات القرن الثاني. لكن الكنيسة كانت واحدة. سؤالي هو هل يحسّون أنهم واحد اذا أقاموا العيد في يوم واحد؟ أم يريدون على الطريقة اللبنانية أن يقول عنهم المسلمون ذلك؟ هذا آخر همّ عند المسلمين. فاذا كانوا ينكرون صلب المسيح وقيامته فلماذا يريدون أن يهتمّوا لذكرى حادثة يقولون إنّها لم تحدث؟
السؤال الثاني: هل هذا يقرّب بين الكنيستين؟ لقد اعتمد الأرثوذكسيّون في هذه المنطقة وفي اليونان ورومانيا وسواهما الحساب الغربي في الأعياد الثابتة (الميلاد، الغطاس وغيرها). هل اقتربنا بذلك من الوحدة؟ هل اقترب الإنجيليّون والكاثوليك بعضهم من بعض باقامتهم العيد منذ خمسة قرون في يوم واحد؟
ففي اليونان اليوم حوالي مليون مؤمن أرثوذكسي يرفضون الحساب الغربي للأعياد الثابتة. من يقنعهم باعتماد حساب آخر للفصح؟ من يقنع الصرب بأنهم باتوا واحدًا من الكروات بعد أن ذاق مئات ألوف من الصرب مع مطالع الأربعينات من القرن الماضي عذاب الشهادة.
# #
غير أن عامة النّاس الطيّبين الذين يولون أهميّة قصوى لتاريخ للعيد واحد أن يزيدوا اطلاعهم على المصاعب الحقيقية وهي تتلخّص بأن كل تفسير كان رؤية عن طبيعة الكنيسة الجامعة وعن طبيعة وحدتها تختلف عن رؤية الكنيسة الأخرى. فالرؤية اللاتينية التي تجلّت في المجمع الفاتيكاني الأول (سنة 1870) تعود في جوهرها الى القرن الخامس وتركتها الكنيسة الشرقية تعبّر عن نفسها ولم تكن تكفّرها ربما لاعتقادها أن الوحدة الكنسية والمحبة كفيلتان بألا يتحول هذا الاعتقاد الغربي الى عقيدة ملزمة لكن ذلك تم سنة الـ1870 فهل تم بذا تكفير الارثوذكسيين؟ غير أن لاهوتيًا لاتينيًا كبيرًا أكد لي أن مجمع الفاتيكان الأول أراد تكفير أهل الغرب الرافضين للعصمة ولكن لم يرد حرم الارثوذكسيين الذين كانوا غائبين عن المجمع. ولذا كتب كونفار أن الارثوذكسيين هم من الكنيسة. وبهذا المعنى تكلم البطريرك مكسيموس الرابع (الصايغ) والمطران نيوفيطس أدلبي والمطران الياس الزغبي وهم أركان في كنيسة الروم الكاثوليك الملكيين.
المخرج الوحيد الذي يراه بعض من كبار اللاهوتيين الغربيين ولكن لم يكن يراه الكاردينال راتسنغر (البابا الحالي) أن ما حددته الكنيسة الكاثوليكية في الألفية الثانية أي لمّا كانت تجتمع منعزلة عن الكنيسة الشرقية لا نعتبره الاّ قول كنيسة الغرب المحليّة أو الاقليمية. وفي فهم بعض من كنيسة الغرب أن الغرب يفرق بين conciles generaux التي لم يحضرها سوى الغربيين. فقد أوضحت الأدبيّات الكاثوليكية على سبيل المثال أن مجمع ليون ومجمع فلورنسا كانا عامين. فاذا طبقنا معيار هذا التمييز على مجمع الفاتيكان الاول (رئاسة البابا على العالم وعصمته) يكون هذا المجمع عامًا وليس مسكونيًا ولا تكون الرئاسة والعصمة عقيدة بل رأي لاهوتي لا يلزم كل الناس.
وأما الرئاسة البابوية فيقول كل المؤرخين الكاثوليك الكبار (Duchesne Congar وسواهما) أن الآباء الشرقيين الكبار لم يفهموها يوما كما فهمها أهل الغرب وقد أجمع مؤرخو العالم المسيحي على أن أسقف روما لم يقم بأي عمل اداري في الشرق القديم وتاليا لم تعش الكنيسة الشرقية النظام الذي عاشته الكنيسة الغربية لتتمرد عليه في عملية الانشقاق ويجب أن تعود اليوم الى بيت الطاعة في تفسير لطبيعة الكنيسة وقوامها ونظامها لم تعرفه يومًا.
اذا ذهبنا هذا المذهب فلك أن تقول ما تشاء على ألا تكفرني. ويكون عندنا، اذ ذاك، مذهبان في المسيحية: مذهب غربي ومذهب شرقي مع تعديل النظام الاداري بحيث تبقى الكنيستان في وحدة ايمان ولكن ليس في وحدة تعبير لاهوتي وليس في وحدة تنظيم اداري.
هذا النوع من الوحدة كان قائمًا قبل الانشقاق وكان كل فريق حرًا مع وعي الاختلاف ولكن من دون وعي الخطر. يجوز الاختلاف في العشق والبيت واحد.