إنّه لواقع، ولو مؤلم، أنّ الّذين يطلبون رضى الله، أوّلاً وأخيرًا، سوف يجدون أنفسهم مقطوعين، لا أقول عن النّاس كلّهم، ولكن عن أكثر النّاس. سيَلقون أنفسهم وحيدين، أو يكادون!
هوذا الرّبّ يسوع مثلاً. قال لتلاميذه: “تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرّقون فيها كلُّ واحد إلى خاصّته، وتتركونني وحدي” (يوحنّا 16: 32). ودونك بولس الرّسول في كلامه إلى تيموثاوس يبدي أنّ الجميع تركوه (2 تيموثاوس 4: 16). قلّة، في العمق، تطلب الحقّ الحلال. لذا قال المزمور 13: “أطلّ الرّبّ من السّماء على بني البشر ليرى هل من فاهم أو طالب لله” (الآية 2)؟ وجاء في الرّسالة إلى أهل فيليبي أن: “الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح” (2: 21). ليس أنّ النّاس كانوا كذلك قصرًا على زمن الرّبّ يسوع، وفي أيّام الرّسول المصطفى بولس؛ النّاس كذلك، مَيلاً، بقوّة، منذ الدّهر، وإلاّ ما كان المرنّم صدح بوجع وشموليّة بقوله: “ضلّوا كلّهم جميعًا وتدنّسوا. ليس مَن يعمل صلاحًا حتّى ولا واحد” (52: 3). الخطيئة راسخة في النّفس حتّى أمخاخ العظم! “ويحي، مَن ينقذني من جسد الموت هذا؟! وحدهم الّذين على موجة محبّة الله الواحدة، عِشقًا، يتآلفون ويجتمعون في النّعمة والحقّ. الأكثرون إمّا شاردون ساهون وإمّا باطنيّون على نفاق! في كلّ حال، عن الحقّ معرضون، أو له محارِبون!
هذا يستتبع أنّ أكثر مَن يَحسبون أنفسهم مبالين بالله يفصِّلون الله على قياس أهواء نفوسهم. لا أسهل عليهم من تبرير ذواتهم! الله، وجوديًّا، هو الدّاعم، عندهم، لما ترغب به نفوسهم. بكلام صارخ، يؤلِّهون أكاذيبهم وخباثاتهم وآثامهم، حتّى وحشيّاتهم! الإنسان، في عمق كيانه، في سقوطه، وحش! يطلب، لا بل يبتدع صنمًا، وجملة أصنام، ليتمادى في غيِّه مرتاح البال إلى أبعد الحدود! يجد متعة وراحة في خَدَر حسِّه وجموح خياله وعمى بصيرته. هذا يفضي به إلى موت؟ لا يبالي! الخطيئة، في النّفس، تشتاق إلى الموت! تشدّ إلى الموت! تتولّد، من الاسترسال فيها، متعةٌ للموت، كما يخرج الدّود من الأعضاء الفاسدة المغنغرة… حتّى الموت!
مسيح الرّبّ المبشَّر به ليس إيّاه مَن يعبده أكثرنا ويرتاح إليه! الحال المثلى للأكثرين أن تكون لكلّ فرد آلهته على هواه! الوثنيّة، في عمقها، ثمرةُ تأليه السّقوط! أن يخلق الإنسان آلهةً من طينة عطبه، كما ترغب نفسه. ولو قالوا بدستور إيمان واحد، فلكلٍّ دستورُ “إيمانٍ” خاصّ به في قلبه! لا أسهل من إفراغ كلام الله من مضمونه وبيتِ الله من قدساته، بين النّاس!
فلا غرابة إن قضى كلّ أنبياء العهد القديم قتْلاً! مشكلة الأنبياء، أبدًا، كانت أنّهم، في أمانتهم لله، أصرّوا، برُبط من فوق، على التّفوّه بكلام لم يشأ النّاس أن يسمعوه! قتلوهم، بتواتر، لأنّهم شاؤوا أن يفتكوا بالله، أن يمحوه، بمعنى، إلى النّهاية! الله، عند الأكثرين، مرفوض! لذا كانوا وما زالوا مصرّين على رذل ما لله وإطاحة مَن له! هذه حال النّفس البشريّة، منذ السّقوط! كانت وما فتئت! المسيحيّة الحقّ مِنخس! الأنبياء هم المقلِقون في العالم! فقط، الله يعزِّي المتّضعين (2 كورنثوس 7: 6)! دونك تمزّق إرميا النّبيّ في المعاناة: “صرتُ للضّحك كلّ النّهار. كلّ واحد استهزأ بي… كلمة الرّبّ صارت لي للعار وللسُّخرة كلّ النّهار. فقلت: لا أذكره ولا أنطق، بعد، باسمه. فكان في قلبي كنار محرِقة محصورة في عظامي. فملِلتُ الإمساك ولم أستطع” (20: 7 – 9)!
مصدران لمقاومة الإله الحقّ وحقّ الله بين النّاس: أهواءُ النّفس في قرارة كلّ واحد منّا، وضغطُ الجماعة الّتي إليها ننتمي. الأولى بحاجة إلى نسك لتنحلّ. والنّسك لا يُجدي نفعًا إلاّ في حالَي الفقر الكامل والانقطاع الكلّيّ عمّا يُرضي الهوى في أنانا. أن لا تكون عينُك في شيء! سيّان عندك أن يكون أو أن لا يكون لك. تتروّض على الاّ تطلب إلاّ ما هو في حدود ضرورة الجسد. “إن كان لنا قوت وكِسوة فنلكتفِ بهما” (1 تيموثاوس 6: 8). يبدأ النّسك بالتّخلّي عن المقتنيات ويكتمل باقتناء حالة الخلوّ القلبيّ من الهمّ بتسليم الأمر كاملاً لله! بالنّسك يتحقّق الإيمان الحيّ بالرّبّ يسوع، من كلّ القلب ومن كلّ النّفس ومن كلّ القدرة. هذا من جهة النّسك كفقر كامل. من جهة الانقطاع الكلِّيّ عمّا يرضي الأهواء في النّفس، النّسك هو الحرص الكامل على التّمنّع عن تزويد الأهواء “بالوقود”، وقطع “الإمدادات” عنها حتّى تجفّ وتيبس! يبدأ النّسك، على هذا الصّعيد، بالتّضييق على النّفس، قطْعًا لدابر الغرور والمجد الباطل، ويكتمل بانغمار القلب بشعور عميق بأنّ صاحبه “دودةٌ لا إنسان” (مزمور 21: 6)! هذا معادل قول الرّبّ يسوع لتلاميذه: “مَن أراد أن يخلِّص نفسه يُهلكها، ومَن يهلك نفسه من أجلي يجدها” (متّى 16: 25).
هذا في شأن المصدر الأوّل لمقاومة الإله الحقّ وحقّ الله بين النّاس. في شأن المصدر الثّاني الّذي هو ضغط الجماعة الّتي إليها ننتمي، للجماعة، في العمق، توجُّهٌ، أو قلْ وجدانًا تنشئ الأجيال عليه. الحقّ نفعيّ وهو كامن، لدى الجماعة، في هذا الوجدان، وما عداه سِقْط! هي تعبد ذاتها، وصورتُها عن نفسها صنمُها. فكلّ مَن تحدّاها وتهدّدها في هوّيّتها اضطهدته. اضطهادُ مَن يدين بحقِّ الإنجيل، من هذه الزّاوية، حتميّ! لذا كان اعتبار الرّبّ يسوع الاضطهادات الّتي تلحق بالمؤمنين به بركات (مرقص 10: 29 – 30)! وتكلّم على كون أعداء الإنسان أهل بيته (متّى 10: 36). وأنّه ما جاء ليُلقي سلامًا على الأرض بل سيفًا. جاء ليفرِّق الإنسان ضدّ أبيه والابنة ضدّ أمّها، والكنّة ضدّ حماتها (متّى 10: 34 – 35). الجماعة ضدّ الله، وضعًا، والله ضدّ الجماعة، من جهة الحقّ! هذا أمر واقع كأنّه لا مفرّ منه! من هنا طلبُ رضى الله لا النّاس. بكلام الرّسول بطرس: “إن كنتُ، بعدُ، أرضي النّاس فلستُ عبدًا للمسيح” (غلاطية 1: 10)! ومن هنا أنّه ينبغي أن يُطاع الله أكثر من النّاس (أعمال 5: 29)! على هذا كانت الجماعة قاتلة أنبياء الله ورسله وقدّيسيه، وكان رجالُ الله لاجميها ومؤدّبيها!
حاملُ كلمة الحقّ آتٍ، أبدًا، كغريب، كمعلّمه! هذا ما عليه توقّعُه! أرضُ ميعاده صليبُه! كلمة الله وجعُه ومعاناتُه، لكنّها، معًا، فرحُه وخلاصُه! ما فيه أقوى ممّا فيهم ولو كان، في ذاته، ضعيفًا! يأتيهم من عند أبي الأنوار، ليحرِّرهم من عبوديّتهم لأهوائهم بالحقّ، ولأحدهم الآخر! يشاء أن يحرّرهم حتّى رغمًا عنهم! يدفع إليهم العقار وهم سُخرة للاعتلال! يعلم من أين يأتي ولا يدرون ما يفعلون! على صورة عبد يهوه كائن. محتقَر ومخذول من النّاس. مجروح لأجل معاصينا. مسحوق لأجل آثامنا. لكنّ مسرّة الرّبّ بيده تنجح (إشعياء 53). كلمة الرّبّ له هي كلمة إرميا، أبدًا: “قم، كلّمهم بكلّ ما آمرك به. لا ترتعْ من وجوههم لئلاّ أريعَك أمامهم. هأنذا قد جعلتك، اليوم، مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كلّ الأرض… لرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض. فيحاربونك ولا يقوون عليك، لأنّي أنا معك، يقول الرّبّ، لأنقذك” (1: 17 – 19)!
على هذا، البشريّة باقية في انشداد ومخاض حتّى تتحقّق مقاصد الله فيها كاملة! “كلمتي لا تعود إليّ فارغة، قال الرّبّ”! الأجنّة تخبِط حتّى تلد! والبحر يلفظ أوساخه حتّى النّقاوة الكاملة!