يتفق الفقهاء المسلمون كلّهم على القول إن القرآن قد أباح زواج المسلم من كتابيّة، يهوديّة أو مسيحيّة، وهي على دينها إذ لا يشترط إسلامها، وذلك استنادا إلى الآية القرآنيّة التي تقرّر: “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا أَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ” (المَائِدَة 5، 5). وكلّهم يتفق على عدم جواز زواج المسلمة من كتابيّ. تتعدّد الأسباب وتختلف بين فقيه وآخر، ولكن يبقى الإجماع على المنع.
يدرج يوسف القرضاوي موضوع زواج المسلم من كتابيّة ضمن إطار التسامح الإسلاميّ، غير أنه يضع ستة قيود أو تنبيهات لا بدّ للمسلم من مراعاتها إذا عزم على الزواج من كتابيّة، هي1:
1- أباح الإسلام الزواج من الكتابيّة التي “لها دين وكتاب سماويّ”، والزواج من ملحدة أو شيوعيّة باطل وإن حُسبت هي أو حُسب أهلها في عداد أهل الكتاب.
2- أن تكون تلك الكتابيّة “محصَنة”، أي حرّة عفيفة.
3- الكتابيّة التي يعادي أهلها الإسلام والمسلمين لا يجوز الزواج منها، كالإسرائيليّة في السياق الزمنيّ الحالي.
4- إنّ المسلمة أيًّا كانت، متديّنة أو مجرّد مسلمة ورثت الإسلام عن أبويها، أفضل للمسلم من أيّ امرأة كتابيّة.
5- إذا كان المسلم يخشى من الزوجة الكتابيّة على عقيدة أولاده أو توجيههم، فالواجب أن يجتنب هذا الخطر، وبخاصّة إذا كان يعيش في بيئة الزوجة ومجتمعها.
6- إذا كان عدد المسلمين قليلاً في بلد ما، فالراجح أن يحرّم على رجالهم زواجهم من غير المسلمات، لأنّ زواجهم بغيرهنّ قضاءٌ على بنات المسلمين أو على فئة منهنّ بالكساد والبوار، وفي هذا ضرر محقّق على المجتمع المسلم، وهو ضرر يمكن أن يزال بتقييد هذا المباح وتعليقه إلى حين.
إذا كان زواج المسلم من كتابيّة مشروطًا بقيود عدة، فإن زواج المسلمة من كتابيّ محرّم قطعا. يستند كلّ العلماء في تحريمهم هذا الأمر على الآيتين القرآنيّتين الآتيتين: “لاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ” (البَقَرَة 2، 221)؛ “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ” (الممتحنة 60، 10).
هاتان الآيتان تحرّمان صراحةً زواج المسلمة من مشرك أو من كافر، ولا ذكر صريحا في القرآن كلّه بمنع زواجها من الكتابيّ إطلاقًا أو بإباحة هذا النمط من الزواج. لكن القرضاوي بعد أن يستشهد بهاتين الآيتين، يعترف بهذا الأمر، قائلاً إنه “لم يرد نصّ باستثناء أهل الكتاب من هذا الحكم، فالحرمة مجمع عليها بين المسلمين”2. هذا القول يعني، إذًا، أنّ القرضاوي يعتبر أهل الكتاب “كفّارا” و”مشركين”، وهم بحاجة إلى استثناء في النصّ، وإلاّ اعتُبروا مشمولين بأحكام الكفّار والمشركين. ولا يتوانى القرضاوي، مع اعترافه بأنّ أصل اليهوديّة والنصرانيّة دينان سماويّان، من أن يتهم أبناء هذين الدينين بتحريفهما، ولذلك وجب خضوعهم لأحكام الكفار والمشركين، وبخاصّة في موضوع زواجهم من مسلمات.
ويذهب المفتي الشيخ حسن خالد المذهب عينه، مستندا إلى الآية القرآنيّة (المُمْتَحِنَة 60، 10)، فيرفض زواج المسلمة من المسيحيّ واليهوديّ قائلاً: “نحن نرفض، كقيادة روحيّة، الزواج المدنيّ، لأنّه يتعارض في بنوده التشريعيّة ونصوصه مع أحكام الشريعة الإسلاميّة. فيبيح زواج المسلمة من المسيحيّ أو من اليهوديّ”3. ويؤيّد خالد، من ناحية أخرى، زواج المسلم من المرأة المسيحيّة أو اليهوديّة لأنّ المرأة تتبع الرجل ولأنّ المسلمين يؤمنون برسالة عيسى وبالإنجيل كتابا سماويّا، ويحترمون النصرانيّة ويكرّمون عيسى وأمّه مريم. لكنّ المسيحيين لا يعترفون برسالة محمّد ولا بالقرآن كتابا سماويّا.
غير أن القرضاوي يستعمل، لدعم رأيه في هذه المسألة، حججا أخرى، تستند إلى ما يفترضه القرضاوي دورَ المرأة في المجتمع ومركزها فيه. فهو ينطلق، كسائر الفقهاء الذين سبقوه، من الاعتقاد بـ”قوامة” الرجل على المرأة، وذلك بناء على الآية القرآنيّة: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا” (النّساء 4، 34). فيحكم القرضاوي أنّ الرجل المسلم، أيًّا كان، يحترم عقيدة زوجته الكتابيّة، بينما لا يحترم الرجل الكتابيّ، أيًّا كان، عقيدة زوجته المسلمة. لا شكّ أنّ في هذا الحكم تعميمًا لا يقوم على برهان علميّ، فمن غير الممكن إطلاق حكم عامّ يشمل كلّ الكتابيّين وكلّ المسلمين على مرّ التاريخ البشريّ، في شأن سلوك اجتماعيّ بين زوجين ومدى احترام واحدهما الآخر.
حجّة أخرى يطلقها القرضاوي مفادها أنّ المرأة الكتابيّة المتزوّجة من مسلم تعيش في “كنف رجل يحترم أصل دينها وكتابها ونبيّها”، وهذا الرجل يؤمن أيضًا “بأصل اليهوديّة والنصرانيّة دينين سماويّين – بغضّ النظر عمّا حُرِّف منهما – ويؤمن بالتوراة والإنجيل كتابين من عند الله، ويؤمن بموسى وعيسى رسولين من عند الله”. أمّا المسلمة المتزوّجة من نصرانيّ أو من يهوديّ، فإنّها تعيش في كنف رجل “لا يعترف بالإسلام ولا بكتاب الإسلام ولا برسول الإسلام”، فيرى القرضاوي أنّ امرأةً مسلمةً “يطالبها دينها بشعائر وعبادات وفروض وواجبات” لا يحترمها زوجها، لا يمكنها أن تمارس هذا الإيمان في ظلّه4. يُلاحظ، هنا، أنّ القرضاوي يقارن المسلم المثاليّ بالكتابيّ المتعصّب، وكأنّ الدنيا خلت من المسلم المتعصّب والمسيحيّ المثاليّ.
لا يختلف موقف العلماء الشيعة من مسألة الزواج المختلط عن موقف العلماء السنّة. حتّى إنّهم يوردون الحجج ذاتها. فالسيّد محمّد حسين فضل الله يقول إنّ المسلم يحترم “مقدّسات” زوجته الكتابيّة، لذلك لا يمكن المسلم “أن يسيء إلى أيّ من مقدّسات زوجته المسيحيّة أو اليهوديّة”. بينما، بالنسبة إليه، المسيحيّ المتزوّج من مسلمة “لا يجد حرجًا في أن يتحدّث عن النبيّ محمّد من خلال ذهنيّته المتعصّبة، وإذا لم يكن مهذَّبًا بحيث لا يحترم شعور الآخرين فإنّه لا يجد حرجًا في الإساءة إلى القرآن”5.
أمّا الشيخ محمّد مهدي شمس الدين فيقول في مسألة عدم جواز زواج المسلمة من مسيحيّ: “لأنّ الله سبحانه وتعالى وديننا وشرعنا قال لا تتزوّج المسلمة من مسيحيّ. يستطيع المسلم أن يتزوّج مسيحيّة ولا تتزوّج المسلمة مسيحيًّا. لأنّ الأسرة في الإسلام يتمتّع فيها الرجل بالـ”قيمومة”، ولأنّ المسيحيّ لا يعترف بإيمان المسلم، لذلك لا يعترف دينيًّا وربّما إنسانيًّا يعترف. ولكن ليس في دين المسيحيّ إسلام، من هنا هذه الزوجة المسلمة ستكون في وضع ضميريّ غير ملائم بينما في إسلام المسلم يوجد المعتقد المسيحيّ. فإذا استثنينا فقط قضيّة موت المسيح وصلبه، نرى أنّ الإيمان المسيحيّ موجود في صلب إيمان المسلم وفي نصّ القرآن. من هنا، إيمان الزوجة المسيحيّة محترَم”6. وهو نفسه يعلن أنّ المسلمة “لا تملك بما هي مسلمة حرّيّة الزواج من غير المسلم، لأنّ هذا التشريع ثابت في الكتاب والسنّة واجتهاد المجتهدين”7.
في الختام، الإجماع على عدم جواز المسلمة من غير المسلم هو السبب الرئيسيّ الذي يحول دون موافقة المفتين والفقهاء على الزواج المدنيّ. وثمّة أيضًا أسباب أخرى، أهمّها “قوامة” الرجل على المرأة والهيمنة الذكوريّة في مجتمعاتنا. إلى متى؟ الله أعلم.
(Endnotes)
1 – القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، ص 164-165.
2 – القرضاوي، المرجع السابق، ص 165.
3 – في مقابلة مع مجلّة “الحوادث” اللبنانيّة، 28 تشرين الثاني 1975.
4 – القرضاوي، المرجع السابق، ص 165-166
5 – في مقابلة أجرتها معه صحيفة “النهار” اللبنانيّة، 25 كانون الأوّل 1991. وقد أعيد نشرها في كتاب فضل الله “في آفاق الحوار الإسلاميّ المسيحيّ”، ص 292-313. هنا استلال من الصفحة 313.
6 – في مقابلة مع صحيفة “الديار” اللبنانيّة، 22 كانون الأوّل 1991.
7 – في مقابلة مع مجلّة “الحوادث” اللبنانيّة، 21 أيّار 1976.