لكلّ إنسان موهبة ومواهب. ليس أحدٌ خِلْوًا من عطايا. لِمَن ليس مؤمنًا بالرّبّ يسوع، ولمّا يعتمدْ بالماء والرّوح، ولا خُتِمَ بموهبة الرّوح القدس، الموهبة والمواهب الّتي فيه طبيعيّة: نفسيّة أو حدسيّة، عقليّة أو فكريّة، وجسديّة… لا مواهب روحيّة في “الإنسان الطّبيعيّ” (1 كورنثوس 2: 14). ليست هذه فطريّة.
هذه تُعطى للإنسان من فوق. لكنّها لا تُعطَى إلاّ لمن آمن بالرّبّ يسوع المسيح إيمانًا حيًّا فاعلاً بالمحبّة. ما عدا ذلك، يمكن أن تحلَّ النّعمة الإلهيّة على إنسان يصطفيه الله، لفترة محدودة، لتحقيق قصد إلهيّ محدَّد، ثمّ تغادره متى تحقّق هذا القصد. ولو مال قوم إلى اعتبار بعض المواهب الطّبيعيّة الفذّة، كمثل بعض العلوم والفنون، إلهيّةً، أي من روح الله، فإنّها لا تكون كذلك. ولا تعدو مثل هذه المحاولات كونها مسعًى لتأليه ما هو غير عاديّ في الإنسان ولكنْ من الطّبيعة.
في كلّ حال، لا يحكم في روحيّة موهبة ما أو عدمها إلاّ مَن له روح الله. طبيعيًّا، لا طاقة للإنسان على تمييز ما هو روحيّ إلهيّ ممّا هو طبيعيّ بشريّ. ولو قبلنا جدلاً أنّ ثمّة موهبة، في شخص ما، روحيّةُ الطّابع، عن حقّ، فلا يمكن لصاحبها إلاّ أن يعي، في العمق، أنّها تمتّ وتشير إلى الرّبّ يسوع المسيح. هذا لأنّ روح الحقّ، حيثما حلّ، لا يمكن إلاّ أن يشهد لابن الله المتجسّد (يوحنّا 15: 26)؛ فإن لم يشهد الرّوح لمسيح الرّبّ، في كلّ حال، فإنّه لا يكون روحَ الله! إعراضه عن الشّهادة للرّبّ يسوع، بطريقة أو بأخرى، يكون دليلاً على أنّه ليس من الله. بشريًّا نفسانيًّا يكون، إذ ذاك، مستغَلاً، موجَّهًا من الشّيطان بصورة خفيّة. لا إمكان حياد لدى الإنسان. “مَن ليس معي فهو عليّ”، قال الرّبّ يسوع. هذا يفضي بنا إلى استنتاج آخر. الإنسان، في حال السّقوط، لا يمكن اعتبارُ مواهبه المسمَّاة “طبيعيّة” صالحة بعدُ. السّقوط، والمقصود بالسّقوط، وجوديًّا، عبادة الذّات، جَعَلَ جهة استعمال مواهب الإنسان الطّبيعيّة فاسدة.
هذا شاملٌ كلَّ هذه المواهب دونما استثناء، ما أدّى إلى تحوّلها من قوى نافعة للبشريّة إلى قوى، بالأحرى، مؤذية. ليس كلّيًّا، طبعًا. لا زال هناك، ولله الحمد، بعض الفائدة من تلك المواهب، هنا وهناك. عليه، كلّما عظُمت المواهبُ الطّبيعيّة، في الحال الّتي الإنسان عليها، ازداد الأذى الواقع على البشريّة. الذّكيّ، مثلاً، أخطر من المتخلّف، والمتعلِّم أخطر من الأمّيّ، والفتاة الزّائدة الجمال أخطر من الفتاة المتواضعة الجمال. طبعًا، هذا لا يعني تزكية التّخلّف والأمّيّة والقبح، بل يعني أن الأذكى يصير أقدر على التّوسّع بالشّرّ وأذيّة نفسه والآخرين من المتخلّف، والمتعلّم من الأمّيّ والجميل من القبيح! ليس أنّ الذّكاء لا يجتمع، أحيانًا، مع الفضيلة، والعِلمَ مع الشّهادة لله، والجمال مع تمجيد العليّ. هذا وارد، طبعًا، لكنّه استثناء.
التّيّار، بعامّة، غير ذلك. الأكثرون شُرَّدٌ، يتأذّون ويؤذون. ما لديهم من مواهب يستعملونه لخدمة أنانيّاتهم واستغلال الآخرين. وفي ذلك إمعانٌ في إطلاق العنان لأهواء النّفس وإشاعةٌ للفساد في المجتمع. لا شكّ، بعامّة، أنّ التّخلّف عبء على المجتمع أكثر ممّا هو خَطِر عليه، أمّا الذّكاء فأخطر بما لا يُقاس. طبعًا، ليس أحدٌ صالحًا. لكنّك لا تخاف من المتخلِّف. ربّما تخاف عليه. أمّا الذّكيّ فتخاف منه لأنّه يملك سلاحًا يسيء، بالأكثر، استعمالَه، وهو قادر، نظريًّا، في المدى، أن يُفسد نفسه ومَن حَوله ويدمِّر الأرض!
هذا بالنّسبة للمواهب الطّبيعيّة، أمّا بالنّسبة للمواهب الرّوحيّة، فإنّها تُعطَى، عن إرادة من الله، لمَن كان مؤمِنًا بالرّبّ يسوع، وجرت عمادتُه، وخُتم بختم موهبة الرّوح القدس. ليس أحد، في هذا السّياق، خِلْوًا من النِّعَم الإلهيّة من فوق (يعقوب 1: 17). بكلام الرّسول المصطفى بولس، المؤمنون هم على شبه الجسد الواحد، كلٌّ عضوٌ فيه، وله موهبتُه الخاصّة، بحسب النّعمة المعطاة له، وكذا عملُه الخاصّ. لكنَّ الكلّ هو لخدمة الجسد الواحد، الكنيسة. هناك، إذًا، تمايزٌ على تكامل في المواهب. في رومية 12: 5، يتكلّم الرّسول على المؤمنين باعتبارهم “أعضاء بعضًا لبعض، كلّ واحد للآخر”. وفي رومية 14: 19 يحدِّد الغرض من خدمة كلّ واحد منهم باعتباره بنيان الواحد للآخر. ثمّ إذا كان بعض المواهب، بمعايير النّاس، أرقى من سواه، فللرّبّ الإله، في شأنه، قول آخر.
الأعضاء الأقلّ كرامة في أعيننا، يعطيها الله كرامةً أفضل. بكلام الرّسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “الله مَزَج الجسد معطيًا النّاقص كرامة أفضل، لكي لا يكون انشقاق في الجسد، بل تهتمّ الأعضاء اهتمامًا واحدًا بعضها لبعض” (12: 20، 23 – 25). على هذا، يذكر الرّسول، فيما يذكر، من المواهب الرّوحيّة: الرّسوليّة والنّبوّة والتّعليم والأشفية والأعوان، أي القدرة الخاصّة على القيام بالخدمة، أيّ خدمة، والقدرات القياديّة، الّتي يسمِّيها “تدابير” (1 كورنثوس 12)… هذه وسواها كائنةٌ لبنيان الذّات والآخرين. أمّا موهبة المواهب، المعطاة للجميع، دونما استثناء، والّتي على الكلّ أن يجدّوا في طلبها، فهي موهبة المحبّة، الّتي يعطي فيها اللهُ نفسَه، لنا، بالكامل. هذه لا شيء ينفع بدونها.
عمليًّا، المحبّة، أوّلاً وقبل كلّ شيء، هي ما يفتِّح المواهب ويُبرزها ويجعلها منصبّة على خدمة الجسد الواحد وبنيانِه. من دون المحبّة، كلّ موهبة، وإن بدت روحيّة، لا تكون كذلك. المحبّة هي العلامة والسّياق والختم أنّ موهبةً ما هي روحيّة بالفعل وتبثّ روحًا. وإلاّ ما يُظَنّ أنّه موهبة روحيّة يكون اسمًا على غير مسمّى. الحكمة الكامنة وراء الموهبة المزعومة، إذ ذاك، تكون أرضيّة نفسانيّة شيطانيّة (يعقوب 3: 15). لا موهبة روحيّة، بالمعنى الأصيل للكلمة، تُعطَى لأحد، إن لم يكن جادًّا في طلب المحبّة، في كلّ حال. وحيث لا محبّة، كما رَسم ملامحَها الدّاخليّة الرّسولُ بولس في 1 كورنثوس 13، يكون ٱدّعاء موهبة الرّسوليّة اختلاسًا، وٱدّعاء موهبة النّبوّة عبادةً للذات، وٱدعاء موهبة التعليم تكريسًا للغرور والمجد الباطل، فيما تكون موهبة الأشفية خداعًا، وقسّ على ذلك…
إذًا حيث لا سعيٌ جدّيًّا وراء الله المحبّة في كلّ حين، تكون المواهب، المعتبرة روحيّة، إنْ وُجدت، مواهب طبيعيّة. بكلام آخر، يكون مضمون هذه المواهب بشريًّا، وكذا كيفيّة تعاطيها. اللاّهوت، في إطار هذا المنظور، يصير علمًا كباقي العلوم، يتناول المقولات الماورائيّة، والعقيدة صيغًا دماغيّة فكريّة كلاميّة، والرّوحيّات تراكيب أخلاقيّة إنسانويّة عامّة، والعبادة طقوسًا ومراسم فولكلوريّة…
في هكذا مناخ، أساتذة اللاّهوت تجد بينهم، على نحو تلقائيّ، اعتاد عليه وجدان الأكثرين، مَن لا يؤمنون! ولماذا الاستغراب، في كلّ حال، إذا أضحى اللاّهوت، بامتياز، موضوع عِلم كسائر العلوم، ولم يعد حياة إيمانيّة في الرّوح والحقّ والمحبّة، ولو كان له وجه علميّ؟! الإكليروس، في هكذا مناخ وجدانيّ، من جهة أخرى، تجد بينهم، بيُسر، مَنْ الخدمةُ الكهنوتيّة، في عينه، مجرّد وظيفة لا تفرق، في المضمون، بل في الشّكل، عن سائر الوظائف الدّهريّة. روحٌ دهريّة متجلببة بثوب الخدمة! كأنّه لا علاقة جوهريّة بين السّيرة الذّاتيّة والخدمة الكنسيّة! وهذا كثيرًا ما يكون مغضوضًا الطّرْفُ عنه بين أكثر الرّعيّة والمسؤولين سواء بسواء! كأنّه يُكتفَى بشيء من الحرص على أن لا يكون سلوكُ الإكليريكيّ منحطًّا كثيرًا، في الظّاهر، أو غير أخلاقيّ على نحو “صارخ”! الإكليريكيّ القدّيس لم يعد شرطًا ولا هاجسًا! صرنا شبه محرومين من وجوده بيننا! وفي العديد من الحالات، حتّى سلوكه النّاشز يُقابَل باللامبالاة(!)، أو يُغطَّى عليه اتّقاء الفضيحة والعثرة وأذيّة الكنيسة، يقولون، على طريقة “إن ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا”! الحجّة – وهناك دائمًا حجّة! – أنّه إنسان وليس أسوء من سواه وأنّ العديدين هم كذلك!!!
أبناء الطّائفة – حتّى لا نقول أبناء الكنيسة! – تجد نسبةً عالية بينهم أمّية فيما للإيمان! موسميِّين، أو منصرفين، تمامًا، عن الكنيسة، كأنّهم غير معنيِّين بها! ومع ذلك، محسوبون عليها، لأنّ هذه هي “التّركيبة” السّائدة على مدى أجيال! ولأجل المفارقة، تلقى، في عِدادهم، مَن يفاخر، بلا أدنى شعور بأنّ ثمّة خللاً ما في موقفه، بأنّه “متعصِّب” لطائفته، ولو كان غير ممارس للحياة الكنسيّة! دهريّات على الطّقس البيزنطيّ! أمر “طبيعيّ”، والحال هذه، أن يُعرِّف أحد “أقطاب” الطّائفة، “الغيارى على حقوقها المدنيّة”، عبر التّلفاز، عن الكنيسة الأرثوذكسيّة بأنّها “مؤسّسة اجتماعيّة”! طائفة واحدة يُحسَبون! رغم ذلك، حتّى بشريًّا، ليس مطلوبًا أن يحبّ أحدهم الآخر! على هذا النّحو، تبدو الرّؤية للنّاظرين عاديّة مطبّعة، إلى حدّ ليس بقليل، لا حاجة فيها للتّسآل ما إذا كنّا، بعدُ، كنيسة، أم بتنا بعضًا من برج بابل!
بين محبّة فترتْ وعقلنة سادتْ ودهرنة تفشّتْ، لم تعد الرّؤية واضحة واختلّت المقاييس! الخطاب الكنسيّ، في شأن المحبّة الإلهيّة ووصيّة المحبّة والمواهب الرّوحيّة وأهمّيّة رعاية هذه المواهب والحثّ على عدم إطفاء الرّوح (1 تسالونيكي 5: 19)، أقول، الخطاب الكنسيّ، في هذا الشّأن، أمسى كلامًا يمرّ، بالأكثر، فوق رؤوس النّاس، وبات كلامًا “طوباويًّا”، غيرَ واقعيّ، في الحسبان! كلامٌ يبقى في مرقاته العليا، وواقع رعائيّ يرتع في مرقاته الدّنيا! نكتفي بالقلّة ونفاخر بأجساد الكثرة، معتبرينهم، في كلّ حال، أولادنا! نهملهم وندّعي محبّتهم! “ولو شردوا فسيعودون إلينا لنجنّزهم” قال أحدهم!!! بإمكاننا أن نستمرّ في تعاطي الأمور على هذا المستوى، وبإمكاننا أن نعتبر ونتغيّر! طبعًا، لا بدّ للكلام الإلهيّ من أن يستمرّ قولُه، في كلّ حال، لأنّه مِنخس من فوق. نحن بحاجة إلى تعليم أكثر لا أقلّ! ولكنْ، لا يجوز، بعدُ، أن يكون ذلك خارج إطار التّوبة المعمّمة، على غرار توبة نينوى، حتّى تقترن الكلمةُ بالجسد؛ وكذا في إطار حركة إعادة تبشيرٍ شاملة مكثّفة لِنَاسِنا لأنّنا مطالَبون! “قد هلك شعبي من عدم المعرفة”، قال الرّبّ بهوشع النّبيّ (4: 6)!
أمّا بعد، فإنّ المُقلِق أنّنا بتنا نتعاطى الكنيسة كأنّها استقالت، ونكتفي فيها، بالأحرى، بتصريف الأعمال؛ أو كأنّها أفلسَت ونحن ندير وكالتها! بيننا وبين الكنيسة المرتجاة هوّة سحيقة!
المبتغى، في غمرة الواقع الدّهريّ الخانق، الّذي يستبدّ بنا، من الدّاخل والخارج، هو إعلان حالة طوارئ رعائيّة، والعمل بصحوٍ وغيرة وعلى نحو دؤوب، وفق خطّة رعائيّة شاملة متكاملة استثنائيّة، على مواجهة التّحدّيات الرّابضة على صدر الكنيسة! الاكتفاء، بعامّة، بما نحن عليه ليس مقبولاً! لا مشية السّلحفاة، وسط التّداعي الحاصل، تفي بالغرض، ولا الدوران حول ما نحن عليه، ولا النّوم على حرير طقوس الماضي وأمجاده جائزٌ بعدُ! “لِيَجْرِ الحقّ كالمياه، والبِرّ كنهر دائم” (عاموص 5: 24)! الأزمنة تقترب! على أي نحوٍ نُعدّ أنفسنا لها؟!