عظةُ صاحبِ الغبطةِ البطريرك يوحنا العاشر بطريركِ أنطاكية وسائرِ المشرق فيْ حَفْلِ تنصيْبِه

mjoa Sunday February 10, 2013 110

أحبّائي وأبنائي،

نشكرُ الربَّ إلهَنا الذي أعطانا، خلالَ الشَّهرَينِ الماضِيَين، أن نُعيّدَ لِظُهورِه في الجسدِ كإنسان، وَلِظُهورِه كإلهٍ آتٍ إلينا من أجلِ خلاصِنا. ونحن نَعلمُ أنّ يسوعَ بعد أنّ أتمَّ تدبيرَهُ الخَلاصيّ، الصائرَ بالموت على الصليب، وبالقيامةِ مِن بينِ الأموات، وبعدَ أنْ صَعِدَ بالجسد إلى السّماءِ الّتي انحدرَ منها، وجلسَ بالمجدِ عن يمينِ الإله الآب، أرسلَ الرّوحَ القُدُسَ إلينا، لِيَحُلَّ في قَلْبِ كُلِّ مَن يَستَدعِيهِ لِلسُّكنى فيه، فَيَظْهَرَ لَهُ الربُّ يسوع، ويذكِّرَه بكلِّ أقوالِه وتعاليمِه. يُظهِرُ الرّوحُ القُدُسُ يَسُوعَ أوّلاً في الكنيسةِ الّتي هي جَسَدُه، والّتي أرادَها “بِلا وَهَنٍ وَلا غَضَنٍ وَلا شيءٍ مثلِ ذلك” (أف 5: 27). ويجعلُه حاضرًا أيضًا، داخلَ الكنيسة، في كلمةِ إنجيلِه، في جسدِ ودمِ سرِّ شُكرِه، في لقاءِ إخوتِه المجتمعين باسمِه، وفي كلّ إنسان، وخاصّةً في كلِّ فقيرٍ ومشرَّدٍ ومكسورٍ ارتضى هو أن يسكنَ فيه. وكذلك يُظهِرُه في كلِّ مكانٍ يَهُبُّ الرُّوحُ فيه كما يَشاء، جاعلاً اِيّاهُ حاضرًا مَخْفِيًّا في الدِّياناتِ والثّقافاتِ كافةً.

يَسُوع، العِمّانوئيل، هُوَ حاضرٌ دوماً، هُنا وَثَمّةَ، حاضِرٌ فيما بينَنا. هُوَ دائمًا مَعَنا، مستعدٌ لِلُقْيانا. يَفرحُ لأفراحِنا، يَغتبطُ لقداستِنا، ويَبكي معَنا في مصائبِنا وأحزانِنا. ويَبكي أيضًا علينا كلّما تَهاونّا، رعاةً ورعيّةً، في العيش بمُقتضى تعاليمِه، وكلَّما غطَّتْ خطايانا وجهَهُ الدّامِيَ والمَجيدَ، ومَنَعَتِ العالَمَ أن يَجِدَهُ في كنيستِهِ ومن خلالنا.

تَعالَوا، يا إخوتي، في هذا اليومِ المُبارَك، الّذي يُسنَدُ فيه إليّ صَليبُ رِعايةِ هذه الكنيسةِ الأنطاكيّةِ العظيمةِ بتاريخِها، نتكاتفْ ونتعاونْ لإظهارِ هذه العظمةِ وعيشِها. ويكونُ ذلك أوّلاً بإصغائِنا، معًا، إلى يَسوعَ، كما نُصلِّي في صلواتِنا كلَّ يومٍ ونقولُ “علِّمنِي أنْ أعملَ ما يُرضيك لأنّك أنتَ هو إلهي” (مز 142: 10).

لا يُرضي الرّبَّ أن يَرى أنَّ الوَحْدةَ التي أرادَها بين أبناءِ شعبِه تتصدّع، وأنَّ شعبَهُ يَنقسمُ إلى فئات. نحن، معًا، نؤلّفُ شعبَ الله، شعبًا مَواهبيًّا، أُمّةً مقدَّسةً، كَهْنُوتًا مُلوكيًّا. كلُّ واحدٍ منّا يحقّقُ المواهبَ المُعطاةَ لَهُ مِنَ الرّوحِ في خدمةِ الآخَرِين. الرّاعي هُوَ الخادِمُ الأوّل، الّذي يَتَفانى مِن أجلِ أعضاءِ رعيّتِه، مُنادِيًا كلَّ واحدٍ منهم باسمِه، على غِرارِ الرّاعي الصّالحِ الأَوحَدِ الّذي أَعطى حياتَهُ من أجلِ أحبّائِه. لا يأمرُ الرّاعي “كَمَنْ لَهُ سُلطان” (إغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أهل أفسس 3: 1)، كما قال القدّيسُ إغناطيوسُ الأنطاكيّ، وهو مِن أوائلِ كِبارِ رُعاةِ كنيستِنا الأنطاكيّة، في رسالته إلى أهلِ أفسس. يأمرُ بالتّفاني والمحبّة. يأمرُ بالصّليب الذي يَصعدُ إليه مُختارًا، على مثال المعلّم. عليه أن يُراقبَ مَواهبَ أبناءِ رعيّتِه، مُمَيِّزًا الصالحَ بينها مِن أجلِ تنمِيَتِه، وأنْ يدعوَ كلَّ واحدٍ إلى المساهمة في ورشةِ الملكوتِ الّتي تبتدِئُ على هذه الأرضِ في الكنيسة. وعلى الرعيّة، أن تضعَ كُلَّ إمكاناتِها في خدمةِ الكنيسة، الّتي هِيَ أمُّنا الحقيقيّة، مِن أجلِ المُشارَكةِ في خدمتِها، بعيدًا عن كلّ وجاهةٍ ومُعاظَمةٍ، من أجل إبراز وجهِ المسيح، بإمامةِ أُسقُفِها الّذي يَدعُوها دَومًا إلى المحبّةِ والخدمةِ المتبادَلة. “إنَّ لَكُمْ مُعلّماً واحِداً وأنْتُمْ جَميعاً إِخوةٌ” (مت 23: 8). فتعالَوا نُفَعِّلْ هذه الأُخُوَّةَ في الاِحترامِ المتبادَل، والخُروجِ مِن ذَواتِنا، على صورةِ الله الذي أحبّنا حتّى الموت.

لا يُسَرُّ الرَّبُّ برؤيةِ كنيستِه، المدعُوّةِ إلى رِعايةِ الجَميع، لا تَهتمُّ بالفُقَراءِ اهتمامًا كافِيًا، هؤلاء الصّغارِ الّذين أَحَبّ، ولا تجعلُ منهم إحدى غاياتِ مؤسّساتِها ونشاطاتِها. يريدُ يسوعُ ألا يُعانيَ أحدٌ من الفَقر، خاصّةً عندما يرى أنّه لا ينقُصُنا لا المالُ ولا الإمكاناتُ. فلنضعْ أمامَ أعيُنِنا ما قالَهُ يوحنّا الذّهبيُّ الفم، هذا الرّاعي الكبيرُ الّذي انطلقَ من أنطاكية، مذكِّرًا كلَّ واحدٍ منّا وقائلاً له: “أنتَ لا تملِكُ أيَّ شيءٍ ممّا هُو لَكَ، بل هو مُلكُ الآخرين… إنّه لكَ ولِقريبِك، مثلُ الشّمسِ والهواءِ والأرض” (عظة 20 عن الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس).

يتألم يسوعُ عندما يَرى أنّ أعدادًا مِن أبنائنا، وخاصّةً من الشباب، يتشرّدون فكريًّا ويبتعدون عن البِيعة أو يَغرقون في لامبالاةٍ خانقة. علينا أن نضعَ استعادةَ هؤلاءِ إلى المسيحِ وبيعتِه في مقدّمة أولوّياتِنا، لكي نفرحَ بِعَودةِ الأخِ الشّاطرِ وندعُوَهُ لاِتّخاذِ مكانِه الواجبِ في وَرشةِ الكنيسة. لماذا لا نبحث جِدِّيًّا عن الأسباب الحقيقيّةِ لِهِجرةِ شبابِنا هذه؟ لماذا لا نطوّرُ سُبُلَ رِعايتِنا للخروجِ نحوَهُم، وإقناعِهِم ليس فقط بالكلام، بل بواسطةِ إحياءٍ ليتورجيٍّ وتعليمٍ يسترجعُ الأصيلَ مِن تقليدِنا، ويخلعُ الرّتابةَ عن بعضٍ من مُمارساتِنا؟ علينا أن نبتكرَ ما يمكِّنُهم مِن الوُلُوجِ إلى أعماقِ ليتورجيّتِنا المُلهَمَةِ، وجَعلِهم يَغرِفُونَ مِنها، وأن نُبيّنَ لَهم أنّها ستَفتحُ أمامَهُم مَجالاتٍ ومَجالاتٍ لِلوُلُوجِ إلى قَلبِ الله والإِخْوة. أمامَنا وَرشةٌ كبيرةٌ جِدًّا مِن أجلِ تحديثِ أساليبِ رِعايتِنا وبَرامجِ تَربيتِنا ومَناهجِها. وتَتطلَّبُ وَرشةٌ كهذه مساهمةَ الكاهنِ والراهبِ والرّاهبةِ والعِلمانيِّ والعِلمانيّة، كما عليها أن ترتكز على معرفةِ اللاهوتيّ، والمتخصِّصِ بالتربية، والعاملينَ في حقلِ الرِّعايةِ والعملِ الاِجتماعيّ، على حَدٍّ سَواء.

نعم، فالشُّبّانُ والشّابّاتُ هُمْ غِنى الكنيسة. هُم سُفَراؤُها في هذا العالَمِ المُتَغيِّرِ المَعالِمِ بِسُرعةٍ فائقة. نُريدُهم أن يأخذوا دَورَ السُّفَراءِ هذا بِكلّ جِدّيّة، وأن يَعلَمُوا أنّ الكنيسةَ جَمْعاءَ بحاجةٍ إلى اندفاعِهِم وإلى الاِلتزامِ الّذي يَعرفُ الشّبابُ أكثرَ مِن غَيرِهِمِ الغَوصَ فيه، مكرِّسِينَ حياتَهم للهَدفِ الذي يَضَعُونَ أمامَهم. علينا أن نَجعلَهم يَعُونَ المَكانةَ الخاصّةَ الّتي لَهُم في كنيسةِ المسيح “الّذي أحبَّ الشّابَّ الغَنِيَّ” وَحَزِنَ لِفِراقِه. الشّبابُ دائمًا أغنياءُ بِحَداثَتِهِم وَحماسَتِهِم وَاندِفاعِهِم والمواهبِ الكثيرةِ الّتي يُعطِيهِمِ الله. نحنُ بحاجةٍ إليهم، ونحثُّهُم بمحبّتِنا دوماً على العملِ في ورشةِ الكنيسة، واعتبارِ أنفُسِهِم مسؤولِينَ فيها وعنها، مع إخوتِهم كافّةً وَبِخاصّةٍ الّذين أرادَ اللهُ أن يَسهَرُوا على الجماعة. إنْ أحبَبْناهم كما يُحِبُّ المسيحُ، تصبحُ العلاقةُ بِهِم علاقةَ أُخُوَّةٍ ومَوَدَّةٍ واحترامٍ متبادَل، فيتَعَدَّونَ كلَّ تَضادٍّ بين الطاعةِ والسُّلطة، بل يَعيشُونَ كأبناءٍ في العائلةِ الواحدة، يُطيعونَ مَن يُطيعُ فيها المسيحَ، وتصبحُ السُّلطةُ طاعةً والطّاعةُ سلطةَ محبّة.

وَمِمّا لا يُرضِي الرَّبَّ أن يَرانا متمسِّكينَ بِالحَرف، جامدِينَ فيه دُونَ رُوحٍ أو حياة، فالكنيسة حيّةٌ بالرّوحِ القُدُس. وتأقلمَتْ بواسطتِهِ معَ كُلِّ الأجيال. ليس التقليدُ الكنسيُّ شيئًا جامدًا، يتكرّرُ بِدُونِ وَعْيٍ، بل هو أداةُ خَلاصٍ وفَهْمٍ للسرِّ الإلهيّ. نحن في عصرٍ غالبًا ما يَرفضُ كلَّ تقليد، وهذا ما يؤثّرُ سَلْبًا في شبابِنا. كنيستُنا تواكبُ العصرَ دَومًا لأنّ المسيحَ أرادَها شاهدةً لَهُ في كُلِّ العُصُور. وَمُواكَبَةُ عَصْرٍ كَعَصْرِنا تتطلّبُ أوّلاً أن نرفعَ الغُبارَ المُتَراكِمَ عن تقاليدِنا مِن جَرّاءِ خَطايانا وَمَرِّ العُصور، وأن نعملَ لاِسترجاعِ الأصيلِ في كلّ عَناصرِه. الحَداثةُ نعمةٌ تَدعُونا إلى إحياءِ أُصُولِ عِبادَتِنا وتعليمِنا، وإلى التميِيزِ بين التّقليدِ المقدَّسِ والتّقاليدِ الّتي غالبًا ما نتعلّق بها، مُلْتَهِينَ بِالقُشُورِ وَناسِينَ الحياةَ المتدفّقةَ منها. تقتضي شهادةُ الكنيسةِ في هذا العصرِ أن نميّزَ في الحَداثة، والصّالحُ فيها كثير. علينا استخدامُهُ لاِستقطابِ شعبِنا الّذي يَتأقلمُ بِاطِّرادٍ معَ ثقافةِ الحَداثةِ الّتي تَعُمُّ العالَم. على كنيستِنا ألاّ تخافَ مِنِ استعمالِ ما يُوجَدُ في عصرِنا مِن أساليبَ تمكِّنُها مِن تَحديثِ مُمارَساتِها، وَمَدِّ الجُسُورِ نحوَ شعبِها بِطُرُقٍ وَكَلِماتٍ يَفهَمُها. هكذا فعلَ الآباءُ القدّيسونَ عندما استعملوا الفلسفةَ اليونانيّةَ، التي كانت سائدةً في أيّامِهم، لِنَقْلِ الإنجيلِ وتعاليمِهِ بِلُغَةٍ مفهومةٍ لدى النّاسِ الّذينَ خاطَبُوا. وعلينا أن نَتمثَّلَ بِهم إن كنّا نُريدُ أن نَبقى أُمَناءَ لِنَقْلِ الرِّسالة. فالأمانةُ هِيَ فِي جَعْلِ حَياةِ المسيحِ تَنبُضُ في وُجوهِنا وَعِباداتِنا وَكُلِّ ما يُكَوِّنُ كنيستَنا، فيجدُ فيها النّاسُ طريقَ خَلاص. وفي النهاية، لا يَكُونُ التجديدُ بِتحديثِ نُصوصٍ وَجَعْلِها مفهومةً بِلُغَةِ إنسانِ اليومِ وَحَسْب، بل يَكُونُ بِتَجديدِ الّنفسِ البشريّةِ وَمَفاهيمِها أيضا،ً وَجَعْلِها مُلْتَصقةً بِوَجهِ يَسوعَ وَشاخصةً إليه. آنذاكَ يَتَفاعلُ التّحديثُ البَشَريُّ معَ الَقلبِ الإنسانيّ، وَيُنجِبُ خلاصَ الإنسان.

وَغَنِيٌّ عَنِ القَولِ أنَّ الرَّبَّ يَحزَنُ لرؤيةِ العنفِ والقتلِ يُسيطرانِ في بعضٍ من أوساطنا، كما هي الحالُ في سوريّا الحبيبة في الأيّام العصيبة التي نعيش. لنا فيها إخوةٌ كثيرون شُرّدوا مِن بيوتِهم ووطنِهم، لا عملَ لهم ولا مُعيل. المحبّةُ عَدُوّةُ الموتِ وَكُلِّ عُنف، مِن أيِّ صَوبٍ أتى. علينا اعتبارُ قضيّةِ هؤلاءِ الإخوةِ المشرَّدِينَ قضيّتَنا، وأن نُعِيلَ الّذينَ يُعانُونَ مِن هذه الأوضاع المأسَوِيّة، وأن نتّجهَ إليهم بإطلالةِ محبّة. إنَّ عملاً كبيرًا قد أُنجِزَ على هذا الصعيد لكن لا بدَّ من المزيد، إذ إنّ يسوعَ يتألّمُ في كلّ واحدٍ منهم. فهل نتّجهُ إليه فيهم؟ ألا يَليقُ بِنا أن نتجنّدَ لِخدمةِ هؤلاء، لكي يجعلَنا يسوعُ نَرصُدُ بعضاً مِن أموالنا لَهم، : كـَ “مُدَبِّرِينَ للشّؤونِ الإلهيّةِ” حسبَ قَولِ أحدِ كبارِ قدّيسِيْ كنيستِنا الأنطاكيّة، مكسيموس المعترف؟ ولا بُدَّ لنا، في هذا المضمار، مِن حَمْلِ صليبِ بِلادِنا، والصّلاةِ والعملِ مِن أجلِ المُصالَحَةِ وإحلالِ الأُخُوَّةِ والسَّلامِ والعَدالةِ والحريَّةِ في رُبُوعِنا، رافضِينَ رَفْضًا صارِمًا كلَّ عُنْفٍ وَبَغْضاء.

أَوَلا يَحزَنُ يَسُوعُ عندما يُشاهدُ البعضَ منّا، مِن رُعاةٍ أو مِن رعيّة، نتصرّفُ بعيدًا عن رُوحِ إنجيلِه، فتُشكِّلُ أخلاقُنا عَثَرَةً لكثيرين، بدلَ أن تَهْدِيَ النّاسَ إلى التشبُّهِ بِيَسُوعَ والتَّخَلُّقِ بأخلاقِه؟ لا بُدَّ لَنا إذاً مِن تَوبةٍ شخصيّةٍ وَجَماعيّة، وتَدابير، واتّكالٍ كُلِّيٍّ على الله، عَلَّهُ يَغفِرُ لنا ويَحُثُّنا على ما فيه رِضاه، لأنّ “مَن يشتهي اللهَ ويرتاحُ إليه دائمًا، يُرى اللهُ فيه؛ لأنّ اللهَ موجودٌ في كافةِ براياه”، على حدِّ قَولِ القدّيسِ يوحنّا الدمشقيّ.

وَهُنا تَبرزُ أهمّيّةُ التّنشئةِ الكهنوتيّةِ الصّالحة، والسَّهَرِ على إيجادِ رُعاةٍ بِحَسَبِ قَلْبِ الله، جِدِّيِّينَ وَمُلتزِمِينَ بِرِسالةِ الكهنوتِ السّامية، وعامِلِينَ في وَرشةِ الكنيسةِ الّتي يَدعُونا اللهُ بِإلحاحٍ إلى تَوسيعِها. فأدعو شبيبَتَنا إلى الإقدامِ على هذه الخدمةِ الكنسيّةِ بِتَواضُعٍ وَثَباتٍ وَحُبٍّ كبيرٍ لله، مُتَذَكِّرِينَ قَولَ الرّبِّ لِبُطرس: “إنْ كُنتَ تُحِبُّنِي إرعَ خِرافي” (يو21: 15). وَلِمُساعدةِ هؤلاءِ الكهنةِ في إتمامِ مسيرتِهم وإنجاحِها، سنسعى إلى احتضانِهم والسَّهَرِ على إعدادِهم وتزويدِهِم بكلِّ ما يَلْزَمُ مِن أجلِ إنجاحِ خدمتِهم والاِهتمامِ بتأمينِ حياةٍ كريمةٍ لَهُم، غيرَ ناسِينَ ما للرعيّةِ مِن دَورٍ أساسٍ في هذا المضمار.

تلعبُ الرّهبنةُ في هذا السِّياقِ دَوراً هامًّا في إنعاشِ الحياةِ الرُّوحيّةِ والنّهضةِ الكنسيّة، مِن خلالِ تلك “الواحاتِ الرُّوحيّة”، أعني الأديرةَ الّتي أعطانا الله، في السّنواتِ الخمسينَ الماضية، أن نسترجعَ مَكانتَها في هذا الكُرسيِّ المبارَك، الّذي شَهِدَ نَشْأَةَ الرّهبنةِ في عُصورِ المسيحيّةِ الأُولى. نحن بحاجةٍ إلى أديرةٍ، يَعيشُ أعضاؤُها الشَّرِكةَ الأَخَوِيّةَ في الصّلاةِ والجهادِ الرّوحيّ والعمل، حامِلِينَ إيّانا جميعًا في صَلَواتِهم. ونحنُ على يَقينٍ مِن أنّ صَلاتَهُم تَحمي العالَمَ بِكُلِّ مَن فِيه، وَتُقَوِّي العملَ في وَرشةِ الكنيسة.

يُريدُ يسوعُ أن يكونَ كلُّ شيءٍ بينَنا بِلِياقَةٍ وَنِظامٍ وَحِكمةٍ وترتيب. نحترِمُ أنظمَتَنا وقوانينَنَا ونسعى لتحدِيثِها، إنْ لَزِمَ الأمر، وَلرَفْعِ العَوائقِ الّتي تقفُ أمامَ تنفيذِها، والعملِ الحثيثِ على تطبيقِها. لأنّ القوانينَ ليستْ شرائعَ جامدةً، بَلْ هِيَ تعبيرٌ عن حياةِ الكنيسةِ وَالْتِفافِها حولَ سَيِّدِها. وكذلك علينا أن نجعلَ المؤسّساتِ الّتي أنعمَ اللهُ بها علينا، بِهِمّةِ أسلافِنا الأبرار، أكثرَ وَعْيًا وَحُضُورًا لِمُواجَهَةِ تَحَدِّياتِ عالَمِ الاِستهلاكِ الحديث، ساعِيَةً إلى أنْ تَنْهَلَ مِن تُراثِنا وإطلالاتِ الرُّوحِ فينا، ما يُسهِّلُ عليها مُحاكاةَ هذا العالم، وإعطاءَ أبنائِنا سُبُلَ الوُقُوفِ بِصَلابَةٍ تُجاهَ المُسِيءِ مِن تَحَدِّياتِهِ، والتّـأقلُمِ بِدُونِ خَوفٍ أو تَقَوقُعٍ مَعَ ما يَحمِلُهُ مِن إيجابيّات. لا مُبرِّرَ لِوُجُودِ المؤسَّسةِ في الكنيسة، على أهمّيّةِ دَورِها الثقافيّ والاِجتماعيّ في خدمةِ أبناءِ الله، سوى كَونِها شاهدةً لِيَسُوعَ وناقلةً بِطُرُقِها الخاصّةِ لتعاليمِه.

أرادَ يسوعُ كنيسَتَه أن تكونَ نُورَ العالَم. والنُّورُ لا يُوضَعُ تحتَ المِكيال، بل عليه أن يَشِعَّ في عقولِ مُعاصِرِينا وقُلُوبِهم. علينا دعوةُ كُلِّ قِوانا الحَيَّة، والسَّعيُ لِجَعلِها تَصُبُّ في خِدمةِ أُمِّهِم، كنيستِنا الأنطاكيّة، لِتَبقى على ذاك الوَهْجِ النَّيِّرِ الّذي أَنْتَجَهُ كُرْسِيُّنا الرَّسُولِيُّ عَبْرَ التّاريخ. وهُنا لا ننسى الدَّورَ الكبيرَ لِمَعهَدِ القدّيسِ يوحنّا الدّمشقيِّ اللاهوتيّ، وجامعةِ كنيستِنا الأرثوذكسيّة، جامعةِ البلمند، في المُساهَمَةِ في تَجديدِ رُؤيَتِنا الرِّعائيّةِ والخُروجِ مِنِ اكتِفائِنا بِذَواتِنا، والمُساعَدَةِ على إيجادِ القَولِ المُناسِبِ لِرَفْعِ التَّحَدِّياتِ الجَمَّةِ الّتي تُواجِهُ جِيلَنا، وكذلك دَوْرَ سائرِ مؤسساتنا التربويةِ والإنسانيةِ وغيرِها.

نُبهجُ الربَّ عندما نعملُ، رُعاةً ورعيّةً، من أجلِ توطيدِ وَحْدَةِ الكنائسِ الأرثوذكسيّةِ وَمُواكَبَتِها في سَيرِها نحوَ المَجمَعِ الكبيرِ المقدَّسِ العتيد، ومُواجَهَتِها لِلتَّحَدِّياتِ الّتي تُبعِدُها عن جامِعِيَّتِها. ولا نَنسى هنا ما لكنيسةِ القسطنطينيَّةِ والبطريركيَّةِ المسكونيَّةِ مِن دَورٍ أَساسٍ على هذا الصّعيد. سَنَبقى في أنطاكيةَ جسرَ تواصلٍ بينَ الجميع، داعِمِينَ كُلَّ قَرارٍ يُتَّخَذُ بإجماعِ الكنائس، وعامِلِينَ دَومًا لإيجادِ الحُلُولِ الكَفِيلَةِ بإبرازِ وَجْهِ يَسُوعَ وَحْدَهُ في كنيستِه، بعيدًا عن كُلِّ مجدٍ دُنيَوِيٍّ، من أجل خلاص العالم.

لا بدّ أن يبكيَ يسوعُ لِرُؤيةِ العالَمِ المسيحيِّ المُقَطَّعِ الأوصال، والتَّباعُدِ الحاصلِ بينَ أطرافِه، وتَقَهقُرِ العملِ المسكونيِّ في الآوِنَةِ الأخيرة. علينا أن نُصلِّيَ معَ يسوع، وكُلِّ الإخوة المُنْتَمِينَ إليه، من أجلِ “أن نكونَ واحدًا” (يو17: 11). وعلينا أن نَفهمَ أنّ هذه الوَحْدَةَ هِيَ شَرْطٌ لازِمٌ “لِكَي يُؤمِنَ العالَم” (يو 17: 21). وَما ابتِعادُ النّاسِ عَنِ الإيمان، وَعَدَمُ اكتِراثِهم بمَحبّةِ الرّبّ، وَجَعْلُ كُلِّ رَجائِهِم في الإنسان، بعيدًا عن الله الّذي خَلَقَهُ على صُورَتِهِ وَدَعاهُ إلى التّشَبُّهِ بِهِ والتّأَلُّه، إلاّ علامةٌ بينَ علاماتٍ كثيرةٍ أُخرى تَحُثُّنا على العملِ الدَّؤُوبِ مِن أجلِ إعادةِ اللُّحْمَةِ بين الكنائس، الشَّرقيّةِ منها والغَربيّة، والتَّعاوُنِ العَمَلِيِّ بين أبنائِها في حُقُولِ الخِدمةِ والرِّعاية، وتشجيعِ الحِوارِ لِمَعرِفَةٍ أفضلَ لبعضِنا البعض، وأَخْذِ المُبادَراتِ النَّبَوِيّةِ الجَريئة، لِكي يَهَبَنا اللهُ أن نَصِلَ، في الوقتِ الذي يَرْتَئِيه، إلى الاِشتِراكِ في الكأسِ الواحدة، فنتمكَّنَ عندَ ذلكَ مِنَ القَولِ لِمَنْ يَسألُنا عن إيماننا: “تعالَ وَانْظُرْ” (يو1: 46). تعالَ وَاشْهَدْ كيفَ تَنبُعُ محبّتُنا لِبَعضِنا البعض مِن محبَّتِنا لِلَّذي أَحَبَّنا أَوَّلاً وَبَذَلَ نفسَهُ عَنّا.

لا يرضَى اللهُ عندما يَرى العيشَ المشترَكَ المُحِبَّ معَ الّذينَ يشاركُوننا الوطنَ الواحدَ مِن غيرِ المسيحيّين يَتقهقرُ هُنا وَهُناكَ لأسبابٍ مختلفة، منها السّياسيُّ ومنها اللُّجُوء، عندَنا وعندَهُم، إلى نَزَعاتٍ أُصُولِيّة، لا تَمُتُّ إلى الدِّينِ الأصيلِ بأيّةِ صِلَة. المحبّةُ لا تَعرِفُ الخَوفَ والعِداء، بل “تَتَأَنّى وَتَرْفُق… وَلا تَحسُد… وَلا تَنتَفِخ… وَلا تَظُنُّ السُّوء… وَلا تَفرَحُ بِالظُّلم” (ا كو13: 4). المحبّةُ شِعارُنا وَسِلاحُنا. إنَّنا، نحنُ الأنطاكِيِّينَ، كنيسةٌ مَشْرِقِيَّةٌ جُذُورُها ضارِبَةٌ بِعُمقٍ في مِنطَقَتِنا وَمَشْرِقِنا العَرَبِيّ. ونحنُ، معَ إخوتِنا المُسْلِمِينَ، أبناءُ هذه الأرض. فيها أرادَنا الرَّبُّ لِنَشْهَدَ لاِسْمِهِ القُدُّوس، وَفِيها علينا أن نبقى، مُشَجِّعِينَ العَيشَ المُشتَرَكَ الكريم، ونابِذِينَ كُلَّ ضَغِينَةٍ وَخَوفٍ وَتَعالٍ. أيها الأعزّاءُ المُسْلِمونَ، نحنُ وإيّاكُمْ لَسنا فقط شُركاءَ في الأرضِ وفي المَصيرِ. نحنُ بَنيْنا معاً حضارةَ هذهِ البلادِ، ومُشترِكُونَ في الثّقافةِ والتّاريخِ. لذلكَ يجبُ عَلَينا أن نحفظَ معاً هذه التّركةَ الغاليةَ. كما أَنّنا شُركاءُ أَيضاً في عبادةِ اللهِ الواحدِ الأَحَدِ، الإلهِ الحقيقيِّ، نورِ السمواتِ والأرضِ.

نحن كنيسةٌ ولسنا مجرّدَ طائفةٍ بينَ سائرِ الطَّوائف. الكنيسةُ تَشْمُلُ الطّائفةَ وَلا تُنكِرُها. لكنْ، ليسَتِ الكنيسةُ طائفةً تقفُ اهتماماتُها عندَ حُدُودِها دُونَ سِواها، لأنَّ سَيِّدَنا طَلَبَ مِنّا أنْ نُحِبَّ الجَميعَ وَنَسعى إلى خَيرِ الجميع. هذا لا يعني ألاّ نَهتَمَّ بِشُؤُونِ هذه الجماعةِ الطّيِّبَةِ الّتي تُؤَلِّفُ نَسيجَ كنيستِنا الاِجتماعيّ، ولا بدّ من أن نفعل، بِرُوحٍ إنجيليّةٍ منفتحةٍ على جَميعِ مُكَوِّناتِها. نُصلّي مِن أجل كُلِّ أعضائها بلا انقطاعٍ، لأنّنا بهذا “نَقُودُهم إلى الرّبّ” (إغناطيوس الأنطاكيّ). نُريدُ الاِستماعَ إليهم وإلى مشاكلِهم وَمُعْضِلاتِهم، والمُساهَمَةَ في مُعالَجَتِها. نَعرِفُ أنَّ كُثُرًا مِنهُم يُهاجرون خَوفًا أو قَلَقًا على المصير. وآخَرُونَ يُهاجِرُونَ طَلَبًا لِلُقْمَةِ العيش. هذه الأُمورُ في صُلْبِ رِسالةِ الكنيسة. وعليها أنْ تَنْتَبِهَ بِجِدِّيَّةٍ إليها، مُستعمِلَةً ما لَها مِن طاقاتٍ وَمَوارِدَ وَأَوقافٍ، عَلَّهُم يَبقَونَ في رُبُوعِنا. أمّا الذين رَحَلُوا والّذينَ سَيَرحلون، فَعلى الكنيسةِ أن تَجِدَ الأساليبَ النّاجِعةَ لِمُتابَعَةِ رِعايَتِهِم في بِلادِ الاِنتشار، بواسطةِ الأبرشيّاتِ الأنطاكيّةِ المنتشرةِ هُناك. ولكنْ علينا، حيثُما حَلُّوا، أنْ نَدْعُوَهُم دَومًا وَبِإلحاحٍ إلى أن “يَقْتَدُوا بالمسيحِ كَما اقتَدى هُوَ بِالله” (إغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أهل فيلادلفية 7: 2)، مُذَكِّرِينَ إيّاهُمْ جميعًا أنّهم “رُفَقاءُ طريق، وَحامِلُو الله” (إغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أهل أفسس 9: 2)؛ لأنّه مِن دُونِ الله، وَمِن دُونِ الرُّجُوعِ إليهِ بِاتِّضاعٍ وَانكِسارِ قَلْب، لا جدوى لِلتَّجَمُّعاتِ البَشَرِيّة، وَلا حاضرَ لَها ولا مستقبل.

إخوتي، أبنائي، هَمُّنا المُشتَرَكُ أَنْ نُرضِيَ الرّبّ. هذا هُوَ التّحَدِّي الكبيرُ الّذي أَدْعُوكُم إليه، معَ شُرَكائي في الخدمة، أعضاءِ المجمعِ الأنطاكيِّ المقدَّس، وأبرشِيّاتِنا في الوطنِ والاِنْتِشار، وسائرِ أبناءِ كنيستِنا. الكُرسيُّ الأنطاكيُّ واحدٌ ومتَّحدٌ، وسنَعملُ على أنْ يَبقى كذلك، بلْ وَيَتَوَهَّجَ أكثرَ فأكثرَ لَمَعاناً وإشراقاً. لا تتَقَوقَعُ فيه كُلُّ أَبرشيّة على ذاتها، بل تَسعى معَ أَخَواتِها إلى تَعاوُنٍ وَتَعاضُدٍ، مُنفَتِحٍ على الكنائسِ الأرثوذكسيّةِ والكنائسِ المسيحيّةِ الشّقيقة، وَكُلِّ ذَوِي النَّوايا الحَسَنة. هَدَفُ كُرْسِيِّنا ألا يَسْتَحِيَ بِنا يَسُوع. وعلينا جميعًا أن نتكاتفَ في المحبّةِ وَالوَحْدَةِ، لِلوُصُولِ إلى هذه الغاية. ساعِدُوني لِكَي نَصِلَ إليها، فَتُصبِحَ كنيستُنا مُتَلألئةً بِنُورِهِ على وُجُوهِنا، خادمةً، علامةَ سَلامٍ وَأُخُوَّةٍ وَمُشارَكة، يَقْتَدي بِها هذا العالَمُ المُتَقَهقِر، المُفتِّشُ عن معنى الحياة. ونحن نعلمُ أنّ هذا المعنى هُوَ فِينا، ولكنْ غالبًا ما نُخْفيهِ خَلْفَ أَهوائِنا وَخَطايانا. أَدْعُو بِتَواضُعٍ وَأُخُوَّةٍ كُلَّ أَبرشِيّاتِنا أن تتجنّدَ لِمَسْحِ الغُبارِ عَنِ اللؤلؤةِ الثّمينةِ المُسْنَدَةِ إليها، فتَكُونَ بِتَعاضُدِ أَبناءِ كُلِّ واحدةٍ منها وَمُشارَكَتِهِم في الخِدْمة، شاهِدَةً لِرَبِّها وَرَبِّنا الواحدِ الّذي افْتَدانا بِدَمِهِ الكريم، ويريدُ أن تَستَعِيدَ الكنيسةُ الأنطاكيّةُ، حيثُ دُعِينا مسيحيّينَ أوّلاً، الدَّورَ الطَّلِيعيَّ الّذي لَعِبَتْهُ في القديم.

وأخيرًا وليس آخِرًا، أَوَدُّ أنْ أَرفَعَ الشُّكْرَ، بِاسْمِي وَبِاسْمِ المجمعِ الأنطاكيِّ المقدَّس، إلى السّادة حُكّام سُوريّا وَلُبنان وَشَعْبَيهِما، مُؤَكِّدًا أنّ كُلَّ ما يُصِيبُ البَلَدَينِ يُصِيبُنا في الصَّميم، وكذلك إلى سائرِ الدولِ في مشرِقِنا العربي، طالِبًا مِنَ الله أنْ يُبعِدَ عنها كُلَّ مَكْرُوهٍ وَعُنفٍ وَخَراب، وَيُوصِلَهُما إلى السَّلامِ والعّيشِ الكريم.

للاستماع إلى الكلمة (اضغط هنا)

عظةُ صاحبِ الغبطةِ
البطريرك يوحنا العاشر
بطريركِ أنطاكية وسائرِ المشرق
فيْ حَفْلِ تنصيْبِه
دمشق، كنيسةُ الصليبِ المقدس، 10 شباط 2013

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share