(كلمة الدكتور أديب صعب في استقبال غبطة البطريرك يوحنا العاشر يازجي في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند مساء الأربعاء 13 شباط 2013).
سيّدي صاحب الغبطة
البطريرك يوحنا العاشر الجزيل الاحترام،
اسمح لي أن أُخاطبك بصيغة المفرد التي بها نخاطِب الآب والابن. فكيف لا أُخاطبك هكذا، وأنت نفحة الروح القدس تهبّ على هذه الديار التي نشأتَ فيها طالباً، وشببتَ عميداً، وانتُخبتَ أُسقفاً وبطريركاً، وها أنت تأتي اليوم جمعاً في مفرد ومفرداً في جمع.
أنطاكية قِبلة المسيحية، والبلمند قِبلة أنطاكية. كل زاوية هنا تحمل تذكاراتك الطيّبة. كل زهرة تفوح بعطر خصالك. كل حجر يرتسم أيقونة تشع بخَلقك الهنيء وتنضح من زيت خُلقك.
وأنا، أنّى لي الكلام لو لم ندخل هذا الحرَم في سنة واحدة: أنتَ طالباً في السنة الأُولى وأنا أُستاذاً ناشئاً لا أتجاوز طلابي كثيراً في السن، مع اثنين يكبراننا ردحاً: الطيّب الذكر المتروبوليت بولس بندلي مطران عكار، وهو مدير ثانوية البلمند آنذاك، وأبوك الروحي المتروبوليت يوحنا منصور مطران اللاذقية، وهو رئيس الدير في تلك الآونة.
يكفيني من ذكرياتي في تلك المرحلة التأسيسية أنه كان لي شرف تعليمك الفلسفة القديمة والوسيطة والحديثة، إضافة إلى مادتين أدخلتُهما إلى المعهد، هما فلسفة الدين واللغة العربية. كنتم المختبر الذي طوّرتُ فيه خبرتي التعليمية، فلم يقتصر عملي على تعليمكم، بل تعلمتُ بكم، إن جاز التعبير، وتعلمت منكم. وعندما بلغتم الصف الرابع ولم يبقَ في هذا المكان كثيرون بسبب الحرب الأهلية، كان ثلاثة منكم يحملون الكتب والدفاتر والأقلام، ونجلس في ركن من هذه القاعة بالذات حيث نجتمع اليوم، نتحدث في فلسفة الدين، ومعي أقمار ثلاثة من ذلك الصف الميمون: مطران اللاذقية حالياً ومطران طرابلس والكورة حالياً وأنت يا صاحب الغبطة.
وطالما اجتمعنا في كنف رئيس الدير آنذاك، ملاك اللاذقية الذي أَدركَ أنه اكتشفَ لؤلؤة نادرة يوم تكشفتَ له، والذي تأتي بطركيّتكَ اليوم تتويجاً لآمال عمره وهو لابسٌ درع المسيح، فيستطيب أن يقول، بعد مديد من الأيام، “الآن تطلق عبدك يا سيد”. ولا بد لي من وقف شلال الذكريات هنا، إذ لو تماديتُ “فلستُ أظن أن العالم نفسه يسعها”. لكني لا أنسى سلفيك العظيمين: البطريرك إلياس الرابع الذي كان معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي شغفه وشغله، والبطريرك إغناطيوس الرابع الذي جعل من هذا المعهد أُمّاً لجامعة مزدهرة. كما لا أنسى بالطبع عميد المعهد الأُسقف غطاس الذي يتجلّى، أينما حل، أيقونةً للمحبة.
منذ أيام تلمذتكَ في هذا المعهد تابعتَ نشر كلمة المسيح في هذه الربوع الطيّبة. وما برحتَ تنشرها أينما حللت، سواءٌ في اليونان أو في دير مار جرجس الحميراء أو في أُوروبا، بل في كل مكان قصدتَه حاملاً أصالتكَ الشخصية وأصالة بيت المعلم منح يازجي وأصالة البلمند. كنتَ وما تزال كتاباً حياً مفتوحاً، شاهداً للمسيح حتى أقصى الأرض.
واليوم، إذ تأتي إلى البلمند سيداً لهذا البيت بكل دياره وأدواره، دعني أستعير بعضاً من كلامك قبل ثلاثة أيام، عند توليتكَ بطريركاً، حين ذكرتَ “طريق دمشق”، لأقول: إنّ كل من يؤمّ هذا المعهد فإنما يأتيه شاوولاً إلى حضرة حنانيا الذي تفسيرُه يوحنا، الفاتح ذراعيه بحنان كي تسقط الغشاوة عن العيون، فيصير كل شاوولٍ بولساً ويغتبط قلب الرب.
بارِك يا سيّد.
إلى سنين عديدة.