كلّنا أمَسكنا يديه، اليوم، بعد أن أمسك يدينـا، وكان دليلُنـا في الجليليّ، عمراً.
كلّنا غسلنا جسده بدموع الوفاء بعد أن عوّم نفوسنا في أريج اللطف زمناً.
كلّنا كنّا هناك، نسرق من وجهه ما تيسّر من لمعة فكر لم تجف بعد، ومن عينيه ما توفّر من ومضة فرح لم تغفو.
… كنّا كلّنا، اليوم، مع “المعلّم” لحظة احتجاب وجهه، وجه النبيّ، خلف ما يفصل بين الأرض والسماء، خلف ما يفصل، فيه، بين الحنطة والزؤان.
صغاراً، كباراً، تلاميذَ، رفاقاً، أصدقاء كنّا. انتفضنـا، معاً، على صمته في عبور عتبة الموت الى الحياة وأبطلنا، سويّةً، كلّ سكون في الرحيل. رغماً عنه تخطّينا الطقوس، نقضنا خفرَ رقاده، وأعلنّا انتماءنـا الى جماعة الضجيج وصرخنا، في قلوبنا، المسيح قام.
فكما جاز لايلي الحاج عبيد أن ينحاز إلى حيث يحلو له الانحياز ويحلم بحيث يسمو الحلم، جاز لنا أن نخنق الألم بالصراخ والأمل. كما جاز له أن يكون إبن الحريّة في الانتقال ساعة يشاء وكيفما يشاء، جاز لنا أن نكون أبناء الحريّة في التعبير أين نشاء وكيفما نشاء. فالأرض أرض والسماء سماء. ونحن، بعكسه وكلّ الراقدين، ما زلنا أبناء الأرض مهما لبسنا من هويّة السماء.
نحن، ما زال الموت يؤلمنا والانفصال يجرحنا والوجوه تسحرنا والفرح الأرضيّ يشدّنـا. نحن، ربّي، ما زلنا نشتاق إلى الأهل والأحبّة والرفاق، نشتاق إليهم كما عرفناهم، نشتاق الى وجه بولس بندلي كما أطلّ علينا في أرضيتنا، ونحنّ الى وجه الياس مرقص كما سحرنا في دنيانا، ونطلب وجه ميرنا غازي كما تألّق في وسطنا، ونشتاق، منذ اللحظة، منذ اللحظة، إليه. نحن، ربّي، ما زلنا نجهل لغة الوجوه التي تطلّ من وراء وجوه ولغة الأجساد التي تسبح وراء أجساد لأننا لم نذق طعمها أو نعاين روعتها. نحن علماء بما عشنا واختبرنا، بالطعم الذي في أفواهنا هنا والجمال الذي في عيوننا الآن. نحن، وإن أخبرنـا الناصريّ أنّ هذا قليل قليل مما هناك، يكفينا هذا القليل. تكفينا الكأس التي نجرع منها كلّ أحد، يكفينا الفرح الذي يتلوها، يكفينا أن نصحو كلّ يوم على وطأة أقدامهم وجمال وجوههم وبحّة أصواتهم وروعة قصائدهم وجهارة صلاتهم وحلاوة مجالسهم. نحن، تكفينـا ذرّة إلهيات في أرضنا.
“فتعال أيها الرب يسوع”، تعالَ وحرّرنا من كلّ انفصال، من هذا الحنين، تعال واجمعنا الى الجماعة المنتصرة بك. بمجيئك إلينا أجب هذا الرفيق الذي أسرع، في فورةٍ كعادته، يشكو مراوحتنا أمام الوجوه إليك، يشكو عجزنا عن أن نعبر القدّيسين والمعلّمين والأحبّة نحوك. أسرعَ يشكو عجزنا عن أن نحطّم حزن الموت لنبني، بأنقاضه، فرح القيامـة.
لكن، ربّي، يبقى لنا العيد في لقاء الأحد، وتبقى رحمتك هي الفرح، وصلاته ورفاقه، في عرش الراقدين، هي الرجاء، والحجر المدحرج هو الانتصار بك.