الحلقة الرّعائيّة الضّائعة!

mjoa Monday February 18, 2013 88

  إعلان “حالة الطّوارئ الرّعائيّة” أوردتُه في مقالة: “في غمرة الضّياع بلبلة في المواهب!”، من زاوية “نقاط على الحروف”، عدد 3 شباط 2013. راجع سياقه في محلّه. في هذه المقالة، بإذن الله، سأحاول أن أُوضح ما قصدتُه بهذا التّعبير، من خلال جملة وقائع وأفكار أعرضها للتّأمّل والنّقاش، ويمكن أن تشكِّل منطلقًا لبحث جدّي في الشّأن الرّعائيّ، من جهة، والواقع المعقَّد الّذي نحيا في كنفه، اليوم، سواء في الكنيسة أم في العالم، من جهة أخرى. في كِلا الحالَين، القصد هو استعادة ما أسميتُه: “الحلقة الرّعائيّة الضّائعة”.

     إذا ما تكلّمنا على إعلان “حالة الطّوارئ الرّعائيّة”، فلأنّ واقعنا الكنسيّ بات مبلبَلاً مضنيّا إلى حدّ بعيد. بالكاد ترى، بعد، الملامح الدّاخليّة للكنيسة، عندنا، اليوم، هنا وثمّة. الملامح الخارجيّة موفورة. لكن الخشية أن نتحوّل، إلى حدّ ما، أو إلى حدّ بعيد، كنيسة مجوّفة! وأن نسلِّم بالموجود المطبَّع كأمر واقع في موقف لا مبالاة متواترة!

     في العالم، يعلنون “حالة الطّوارئ” عندما يختلّ التّوازن في المجتمع لسبب سياسيّ أو اقتصاديّ أو طوائفيّ، أو ما شابه، وتصبح البلاد، نتيجة ذلك، عرضة لحالة الفلتان الأمنيّ والتّسيّب والفوضى. هنا، في نطاق “حالة الطّوارئ الرّعائيّة”، ما يحدونا إلى إطلاق الصّوت هو أنّنا بتنا عرضةً للفلتان الإيمانيّ والتّسيّب والفوضى الكنسيّة، بحيث أصبح ما هو تراثيّ غريبًا وما هو طارئٌ قاعدةً! لذا “التّرقيع” بات مؤذيًا جدًّا، ولا مناص من اتّخاذ سلسلة تدابير، تخرج عن المألوف، المتداول، اليوم، في مستوى الجماعة، ابتغاء لجم الفلتان الحاصل، والعمل على استعادة المسير القويم للحياة في المسيح في الكنيسة. معالجة الانحرافات الرّعائيّة، كما تُمارَس المعالجة، في إطار وجدان انحرف، باتت مستحيلة! الالتواءات في الفكر الدّينيّ، أو قل الوجدان الإيمانيّ، إذا ما التمسنا تعبيرًا أصحّ، وكذا في الحياة الكنسيّة، باتت أدهى وأعمق وأخطر ممّا نتصوّر. الحاجة باتت ماسّة إلى نوع من جراحة، وإلاّ، بكلّ بساطة، نخاطر بضياعنا ككنيسة!

     ثلاثة أركان تشكِّل المقوّمات الأساسيّة للحياة الكنسيّة، وفي تفاعلها الدّاخليّ وتكاملها، يتجلّى الإيمان الحيّ بالرّبّ يسوع المسيح. هذه نتبيّنها، بوضوح، متى راجعنا، بإمعان، الكيفيّة الّتي عاشت فيها الكنيسة الرّسوليّة، كما عبَّر عنها، بخاصّة، سِفر أعمال الرّسل. هذه الأركان، أو المقوِّمات، هي الكرازة بالإنجيل، أو خدمة الكلمة؛ خدمة الموائد، أو خدمة المحبَّة؛ وخدمة العبادة، أو الصّلاة والصّوم. طبعًا، المقصود بالكنيسة، هنا، هو الجماعة الّتي تحتضن الإيمان القويم، وتحيا فيه، بأمانة، على صعد المحبّة والعبادة والكرازة بإنجيل الخلاص.

     الكنيسة الّتي لا يعرف أبناؤها وبناتها إيمانهم القويم ليست، بكلّ بساطة، كنيسة! التّعليم أمر أساسيّ جدًّا! في الكنيسة الأولى، كان التّعليم يمتدّ حتّى إلى ثلاث سنوات، أحيانًا، قبل أن يُصار إلى ضمّ المهتدين الجدد، بالمعموديّة، إلى الكنيسة. مؤمن لا يعرف ليس مؤمنًا! الإيمان لا يأتي بالسّليقة! يُكتسَب بالجهد! “كيف يؤمنون بمَن لم يسمعوا به، وكيف يسمعون بلا كارز؟” قالت الرّسالة إلى أهل رومية (10: 14). غير أنّ التّعليم لا يكون حيًّا وفاعلاً، إلى حدّ بعيد، ما لم يتوفّر له المناخ المؤاتي، كمثل ما ينبغي أن يتوفّر المناخ المؤاتي للزّرع لكي يزهر ويثمر.

     عن أيّ مناخ أتكلَّم؟

     المجال الّذي يعيش فيه السّمك هو الماء، والمجال الّذي تُتعاطى فيه كلمة الله هو المحبّة، وأقصد بالمحبّة المحبّة المسيحيّة الحيّة، بالمعنى الصّارم للكلمة. في حياة الرّبّ يسوع، له المجد، الكرازة بكلمة الحياة كانت تسير جنبًا إلى جنب وإطعام الجياع وشفاء المرضى، وما شاكلهما من أعمال الرّحمة. لذا المعيار في يوم الدّينونة، كما عبّر عنه ابن الإنسان، هو هذا: “جعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، محبوسًا فأتيتم إليّ… الحقّ أقول لكم، بما أنّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” ( متّى 25: 35 – 36، 40). لا قيمة للتّعليم، في كنيسة المسيح، ما لم يكن بالمحبّة وفي المحبّة وللمحبّة! هذا لأنّ التّعليم، في المسيحيّة، يتركّز في وصيّة المحبّة، ويلتمس المحبّة: “وصيّة جديدة أُعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم… بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي” (يوحنّا 13: 34 – 35).

     اليوم، في الكنيسة، نحن في أزمة! لم تعد كلمة الحياة عندنا قويّة، رغم كونها باتت اكثر شيوعًا، وما عادت محبّة الله تعني لنا الكثير. السّبب أنّ محبّتنا لقريبنا بردت من كثرة الإثم (متّى 24: 12)! الإيمان الحيّ الحقيقيّ، والحال هذه، آخذ في النّدرة، والصّدى الرّهيب للسّؤال السّيّديّ يتردّد: “متى جاء ابن الإنسان، ألعلّه يجد الإيمان على الأرض؟” (لوقا 18: 8).

     لا شكّ أنّ شعبنا، وأكثره جاهل لإيمانه على نحو مأسوي، بحاجة إلى إعادة تبشير! ولكنْ، لا جدوى من بشارة الكلمة ما لم تكن مغمَّسة ببشارة المحبّة، أعني بالمحبّة الفاعلة! المحبّة أوّلاً! من كلّ القلب ومن كلّ النّفس ومن كلّ القدرة! وإلاّ نتعب عبثًا! أرضك تكون ملعونة! “شوكًا وحسكًا تُنبت لك” (تكوين 3: 18)! لا تحتاج إلى خيرات كثيرة لتفي المحبّة حقّها. تحتاج إلى قلوب عامرة بالمحبّة، تتعاطى ما تؤتاه،  فيما بينها، قليلاً أو كثيرًا لا فرق، باسم الرّبّ. وبالبركة يُعطى لها كلّ ما تحتاج إليه ويُكثَّر حتّى الكفاية. النّموذج هو الكنيسة الأولى. “كان لجمهور الّذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحدٌ يقول إنّ شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كلّ شيء مشتركًا… ونعمة عظيمة كانت على جميعهم، إذ لم يكن فيهم أحدٌ محتاجًا…” (أعمال 4: 32 – 33). مَن له يُعطي مَن ليس له لتحصل المساواة (2 كورنثوس 8: 12 – 15)! هذه هي قاعدة التّعامل بين المؤمنين!

     كيف نترجم هذا النّموذج في حياتنا، وضمن واقعنا، في الكنيسة، اليوم وهنا؟

     علينا أن نعترف أنّ المطّلعين على هذا النّموذج ليسوا قلّة، لكنّ الّذين يسلكون فيه نادرون! أكثر العارفين يتكلّمون على المحبّة ولا يتعاطونها! هذا فيما يغطّ الّذين لا يعرفون في جهل مطبق. لا يمكنك، تربويًّا، والحال هذه، أن ترفع السّقف دفعة واحدة. كما لا يمكنك أن تطلب من النّاس ما لا طاقة لهم عليه! القلّة المهيَّأة – والقلّة موجودة، عمومًا، بصورة خفيّة، بدليل استمرار الكنيسة – أقول، القلّة المهيّأة هي الّتي يُفترض لملمتها وإدراجها في مجموعات وتوجيهها لتخمِّر فطير العجين الطّائفي. عندك، إذًا، كتلة تشكِّل مشروع رعيّة؛ وعندك، في إطار هذا المشروع، خميرة رعائيّة عليك الإفادة منها. مشروع الرّعيّة هو أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة، ضمن نطاق جغرافيّ محدّد. والخميرة، في النّطاق عينه، هي نواة الكنيسة المحلّيّة الفاعلة. دور الكاهن هو أن يجمع ويحشد ويوظّف عناصر الخميرة في خدمة العجين الفطير. يعدّها وينظّمها، لتصير هيئة رعائيّة مكرّسة، نوعًا من هيئة شمّاسيّة، ويطلقها ويسهر على حسن أدائها في خدمة المحبّة، في مختلف أوجهها؛ وضمن إطار خدمة المحبّة في خدمة الكلمة. يُحصُون كلّ أبناء الطّائفة في المحلّة، ويحدّدون حاجة كلّ ذي حاجة، مقدَّمة لالتزام كلٍّ في إطار واقعه. في البداية، لا يطلبون من أحد شيئًا، ولا يحمّلون أحدًا ثقلاً. فقط يحبّون، يبذلون، يتابعون. من أين يستمددون ما يسدّون به كلّ حاجة معيشيّة؟ ينشئون، أوّلاً، صندوق محبّة خاصّ بهم. والأهمّ محبّتهم في الفعل. يعطي كلّ منهم، أقلّه عشرة في المئة من دخله، سواء حصَّل قليلاً أم كثيرًا. بعد ذلك، يُترك لكلّ واحد أن يقدِّم ما يشاء، كما يحرّك له العليّ قلبه. هذا يكون كافيًا أوّل الأمر، وبه يباشَر العمل. بعد ذلك، قليلاً قليلاً، يأخذ أبناء الطّائفة، المستنيرون حديثًا، في الانضمام إلى مجموعة خدمة المحبّة والكلمة، ما يوسِّع نطاق عملها إلى أن تشمل مشروع الرّعيّة برمّته، ببركة الله، فتصير عندك، إذ ذاك، كنيسة حيّة بالرّوح والحقّ، بمعنى الكلمة.

     ولكنْ، ثمّة أمور عدّة، في هذه العمليّة، ينبغي أخذها في الاعتبار:

     1 –  القاعدة الّتي ينبغي السّير وفقها لبناء الرّعيّة هي أنّ حاجات الكنيسة، وحدهم أبناء الكنيسة الحيّة يسدّونها، لكي يكون كلُّ ما يُتعاطى ثمر البرَكَة المتكاثرة لحساب المؤمنين.

     2 –  لا يليق بالرّعاة ولا بمجالس الرّعايا أن يلجأوا إلى الأغنياء أو السّياسيّين لسدّ حاجات الرّعيّة. كنيسة تعتمد على أموال الأغنياء تصبح مرتهنة للأغنياء. لا مانع أبدًا، لا بل ضروريّ، أن يساهم الأغنياء بقضاء حاجات الكنيسة، مثلهم مثل أصحاب الدّخل المحدود، طالما كانوا ينتمون إلى خميرة الرّعيّة بالرّوح والحقّ. بغير ذلك، السّعي إلى تصدّق الأغنياء والسّياسيِّين مهانة للمسيح وكنيسته وخدّامه!

     3 –  بيع الأوقاف لسدّ حاجات مشروع تكوين رعيّة كنسيّة دليل موت وتكريس عجز في الكنيسة! معناه أنّ أبناء الرّعيّة فقدوا الإحساس بالمسؤوليّة! الأوقاف برسم الاستعمال أو الاستثمار لسدّ حاجات المحتاجين، للإنفاق على الفقير والمريض والعاجز…

     4 – تنظيم الحفلات والمآدب والأنشطة الدّهريّة والألعاب بغية جمع المال مهين وهو تكريس لتقاعس أبناء الرّعيّة عن تقديم البركات للكنيسة بالمجّان وفي الخفاء. الجمع بين التّجارة، باسم الكنيسة، واللّعب على أوتار أهواء النّاس، والتّبرّع، ليس عطاء مبارَكًا. وما ليس من البَرَكة لا يليق السّعي إليه في كنيسة المسيح! مالٌ مغمَّس بالشّراهة والمجد الباطل والاجتماعيّات الدّهريّة، حتّى لا نتحدّث عن اللاّأخلاقيّات، مال دنس لا يليق بالمؤمنين استعماله في مشروعات رعائيّة، مآلها، في نهاية المطاف، تمجيد الله! إذا لم يكن عندنا ما يكفي لقضاء حاجة ضروريّة، بعد بذل الجهد كاملاً، نتّكل على الله ونصطبر، وربُّنا يكفينا!

     5 –  لا بدّ لنا، ونحن في صدد بنيان كنيسة الرّوح القدس، بإيماننا وأمانتنا، من أن تكون كلّ الخدمات الّتي تقدَّم لأبناء الكنيسة بالمجّان: معموديّات، أعراس، جنانيز الخ… نظام البطرشيل متاجرة بالقدسات. الرّاعي يعتاش ممّا يؤمّنه له المؤمنون بشكل مباشر. إذا كانت الرّعيّة فقيرة يكتفي بالموجود. بإمكانه أن يعمل نجّارًا أو فلاّحًا أو أستاذ مدرسة، أو ما أشبه من الأعمال اللائقة، ليعيش ويؤمِّن معيشة عائلته من عرق جبينه. ليس هو أفضل من بولس الرّسول. الرّاعي مفترض به هو وعائلته، أن يطلبوا القداسة، لا العيش على غرار أهل العالم. إذا لم تكن القداسة هاجسه فلا حاجة إليه! الكنائس تعين إحداها الأخرى؟ هذا مشروع ومبارَك! وكذلك اهتمام أسقف المحلّة، وفق الطّاقة، بالرّعاة في نطاق ناحيته! التّذمّر تذمّر على الله أوّلاً! مَن أراد أن يتكرّس للرّعاية عليه أن يعدّ نفسه للتّعب لا للرّاحة، للفقر لا للغنى، وإلاّ ليختر لنفسه عملاً آخر! لا يليق أن يكون الكهنوت للفاشلين في العالم بل للزّاهدين بالعالم! ليس الكهنة أجراء، يعملون بعقليّة الموظّفين في هذا الدّهر. الكهنة رجال الله وخدّام المجد الأبديّ على مثال الرّاعي الأوّل. الكاهن الّذي لا يؤمّ الصّلاة كلّ يوم بين أبناء الإيمان، ولا يتعب، بلا كلل، في افتقاد النّاس وتعزية الخراف والصّلاة على المرضى والمضنوكين وتدبير شؤون المحتاجين وإدارة خدمة المحبّة بين المؤمنين، هذا الكاهن طارئ على الرّعيّة ولا يصلح لخدمتها! إنّه لشيء مرعب أن ينتظر الرّاعي يوم الأحد ليقيم الخدمة الإلهيّة، فيما تبقى الكنيسة مقفلة بقيّة أيّام الأسبوع وساعات اليوم. حضر النّاس أو لم يحضروا، يقيم الخدمة بمَن حضر. زيارات الكاهن لا يليق أن تكون استنسابيّة. نظام الكاهن الواحد للرّعيّة الواحدة، إذا تجاوزت المائة بيت، لا ينفع! لا بدّ من إيجاد العوض. لا بدّ من استعادة نظام الشّمّاسيّة الدّائمة لكلّ رعيّة، ولا بدّ من إنشاء معهد خاصّ لإعداد الشّمامسة والشّمّاسات.

     6 –  في إطار الواقع الطّائفيّ الّذي نعاني، نعامل غير المكرّسين لخدمة المحبّة باللّطف والحسنى. ولكنْ، من حيث إنّهم لا يقتطعون جزءًا من دخلهم لصندوق الكنيسة فلا بدّ لهم من أن يؤدّوا رسومًا على الخدمات الّتي يتلقّونها. الفقير لا يؤخذ منه شيء. بالعكس نقدِّم له المساعدة كاملة. أصحاب الدّخل المحدود يؤدّون رسومًا محدودة. والّذين هم في الرّاحة يؤدّون رسومًا مرتفعة يحدّدها الرّاعي مع هيئة خدمة المحبّة. ثمّ متى شاء أبناء الطّائفة، في نطاق الرّعيّة المحلّيّة، أن ينضمّوا إلى المكرّسين لخدمة المحبّة والكلمة، إذ ذاك، تسري عليهم القاعدة السّارية على أبناء الإيمان.

     هذه عيّنة من التّدابير النّافعة والضّروريّة لاستعادة العمق والمنظور الكنسيَّين للرّعيّة. أمور المحبّة والكلمة والعبادة لا تقبل المساومة. لا بدّ من أن يصحو الّذين يعرفون إلى مسؤوليّتهم في التزام الخدمة في الكنيسة. رجاؤنا ألاّ تكون الهمم، هنا وثمّة، قد خارت، إذًا ما أمكننا، بعدُ، أن ننهض بكنيسة المسيح، وصار حالنا كحال الشّعب العبريّ الّذي لمّا لم يعد يستجيب لمنخس الله في أنبيائه ليتوب، سُلِّم إلى أعداء الله وسُبي إلى بابل!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share