الزجر

mjoa Saturday February 23, 2013 114

صعوبة العلاقات البشرية تأتي من ظنك أنك تمتلك الحقيقة أو تمتلك السلطة. ولاية الملوك المستبدين أي قبل النظام الدستوري متأصلة بالإيمان بالحاكمية الوحيدة لأولي الأمر، تلك التي تنفي الشورى ولا تأتي منها. الشورى إن آمنت بها تنفي ايمانك بعصمة فرد وتكشف أن سياسة شؤون الناس تكليف موزع يمارسه غير واحد. وهذا متأصل بعمق في المسيحية التي يتلقى المؤمن فيها الحقيقة اذا اشترك مع الآخرين بالسعي اليها. هذا مكشوف جدا بالعبادة الارثوذكسية القائلة: “لنحب بعضنا بعضا لكيما نعترف بآب وابن وروح قدس”. وقد رأى أوغسطينس هذا لما رأى ان الايمان شرطه الحب.

الآخر اساسي اذًا لتفهم وقد اكتشف المربون المعاصرون في أوروبا اهمية التلميذ في كشف الاستاذ للحقيقة التي يعلم. الآخرون معك وفيك لترى وتدرك ان الحقيقة لا تنزل عموديا ولكنها تتجلى بالمشاركة. الله وحده هو الحقيقة وانت تتلقاها منه مع الآخرين اذا أحببت ربك وأحببتهم. هذا ما رآه افلاطون لما رأى إلى علاقة حب بين المعلم والتلميذ. في سياق المحبة أنت تدرك. وكثيرا ما احببت أنت مادة التعليم لكونك وددت من يلقنها والمعلم يحبك تلميذا ان تلقنتها حسنا. التعليم جماعي بمعنى انه ينكشف بالتعلم وهذا بدوره يصبح تعليما.

في معاهد اللاهوت في روسيا القديمة اختصاصات كما في فروع المعرفة الاخرى. فعندك مثلا العقائديات وعندك تاريخ الكنيسة والطقوسيات. وجرت العادة ان كل استاذ اذا قرأ كتابا في مادة تعليمه يلخصه ويبعث بالملخص إلى كل زملائه فيفيد استاذ العقيدة مثلا من تقرير زميله استاذ التاريخ وهكذا بالتبادل. وتكمن أهمية هذا الحراك بأن استاذ مادة معينة يفيد من الأبحاث في مواد زملائه فيتكامل ويغني تعليمه اذ ليس لأستاذ قدرة ان يقرأ كل شيء.

في الحياة العادية شيء كهذا. فأنت تفهم الكثير في صناعتك أو همك الفكري والآخر يفهم قليلا لأن أفقه العقلي أو العملي آخر. أو أنت متفوق في مجال وزميلك في المجال نفسه عادي. كيف يكون اللقاء العقلي بينكما وانتما على تفاوت في مستوى الإدراك؟ وقد تكونان على التماع واحد ولكن يستعلي احدكما على الآخر.

وتفسد الكبرياء اللقاء فمن أصعب المواقف في الوجود الاعتراف بالآخر اما لاقتناعك بأنك وحدك الفهيم وإما لاقتناعك بأنك دائما الأكثر فطنة أو الأعظم معرفة أو لضعف سلاسة عقلية فيك تجعلك عسير الاقتراب من الآخر. ادعاء العصمة كثير الانتشار عند كبار المثقفين الا اذا كان المثقف بالغ التواضع ويسعى إلى الحقيقة فقط لا إلى الظهور.

اما من انغلق روحيا فكثيرا ما ينغلق عقليا ويعسر عليه التلاقي فيجف في الانغلاق حتى ينتهي عقليا اذ لبسه التحكم. والتحكم لا يأتي من النطاق العقلي ولكن من نطاق الروح التي انكفأت إلى نكران الآخر كوجود فكري. هذا التسلط العقلي إماتة للآخر بلا سلاح. كل قصة العالمين أو من يدعون العلم مع الآخرين هي بالضرورة قصة قايين وهابيل. كل من الأخوين قدّما للرب تقدمة. “فنظر الرب برضى إلى هابيل وتقدمته، اما إلى قايين وتقدمته فما نظر برضى، فغضب قايين جدا… وبينما هما في الحقل هجم قايين على هابيل فقتله. فقال الرب لقايين: “أين هابيل أخوك؟” قال لا اعرف أحارس انا لأخي” (تكوين 4: 6-9).

كل ما يطلبه الله لانسان عن أخيه ان يقرّ بأنه اخوه أي حارس له. فإن لم تكن كذلك يعني انك تتركه في الغاب، غاب هذا المجتمع وتعرضه لافتراس الوحوش فيه. في النهاية تقتله أو تجعل الناس يقتلونه. الإبادة المعنوية للآخر كإبادته الجسدية، وليست اقل فتكا.
الإبادة المعنوية الكبرى تمارس بالتسلط. التسلط ان تنتحل سلطة ليست لك. والسلطان لله وحده. وفي الناس هو تفويض منه استحقوه ام لم يستحقوه. لقد قتل بيلاطس المسيح بسلطان الهي اعترف به المسيح نفسه. كلمة “اكسوسيا” اليونانية في العهد الجديد لا تدل على السلطة القسرية القائمة في النظام السياسي ولكنها تدل على قوة المحبة. الإنسان يأتمر بالمحبة التي ترعاه. خارجا عنها ليس من علاقة بين البشر الا علاقة الموت. أنت حارس لأخيك واذا تملصت من هذه المسؤولية فأنت دافعه إلى سلطان الوحوش في الغاب الذي هو الافتراس.

كل ما بين الناس عنف اذا رأوا ان جامعهم هو المال أو الحكم السياسي. اذا فهمت علاقة الرجل بالمرأة علاقة قانونية فهي من طبيعة الحكم السياسي أي قسرية. اما اذا فهمت علاقة محبة فهي عطاء ولا حساب فيها. عندما يسألني احد الزوجين عن حقوقه أدرك انهما على خلاف واذا طرحا السؤال على الأب الروحي قبل قرانهما ادرك ان هذا القران خطأ عند انطلاقه.

من ابواب التحكم الزجر الذي يأخذ شكل الصراخ مرات كثيرة فاذا لم يفهمك مخاطبك بكلمة هادئة يعني هذا انك تريد لك سلطانا من خارج معنى الكلمة، من خارج مجال المعاني وليس من خروج عن المعاني الا بالعنف كائنا ما كان شكله.

وفي المخاطبة العادية بين اثنين أو في جماعة هذه مخاطبة تتم بالعنف الذي هو دائما انتقال إلى خارج ملكوت المعاني وفي هذا دائما علاقة قسرية وهذا ليس بتواصل. في هذا الانعدام للعلاقة الوجدانية هذا فرض صاحب العضلات على من ليس له عضلات أو فرض الصارخ حدته على من حاول قمعها أو تهذيبها.

وهذا يظهر كثيرا في التقاء بدني خلا من الإنسانية اللميس أي من العقل المنفتح، المعطاء على اساس: “أنا ربكم فاعبدوني” مخاطبكم يقرر انه ربك وانك عبده ويسكتك من خوف أي يقتل فرادتك فالثنائية بينكما ويقرر حكم ربوبيته.

وقبل ان تفنى وجدانيا يدوسك ويعلن وجوده وحده واذا صمتّ امام هذه العنجهية يحتاج إلى ما يبدو إماتتك الكاملة ليكشف انه حي وفي الحقيقة انه مات سفيها وقمت أنت بالفرح.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share