“فقال لهم يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا هو. فأخذوا حجارةً ليرجموه فتوارى يسوع وخرج من الهيكل” (يوحنّا 8: 58-59). هنا، يعرّف يسوع بنفسه بكونه “أنا هو”، أي يهوه، وهو اسم الله الذي كشفه الله لموسى النبيّ عند العلّيقى الملتهبة: “فقال الله لموسى: أنا هو مَن هو (يهوه). وقال كذا قلْ لبني إسرائيل: “أنا هو” أرسلني إليكم. وقال الله لموسى ثانيةً: كذا قلْ لبني إسرائيل الربّ إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الدهر وهذا ذكري إلى جيل فجيل” (خروج 3: 14-15).
أدرك اليهود معنى تعريف يسوع بنفسه بكونه “أنا هو”، أي أنّه ساوى نفسه بالله. لذلك اعتبروا أنّه جدّف فأخذوا الحجارة ليرجموه. وهذا حصل مرّة ثانيةً حين أعلن يسوع جهارًا: “أنا والآب واحد”، فتناول اليهود حجارةً ليرجموه، “فقال لهم يسوع: إنّي أريتكم أعمالاً كثيرة حسنة فلأيّ عمل منها ترجموني؟ فأجابه اليهود: إنّنا لسنا لعمل حسن نرجمك، لكن للتجديف، ولإنّك تجعل نفسك إلهًا وأنت إنسان” (يوحنّا 10: 30-33). لقد فهم اليهود بدون أيّ لبس معنى كلام يسوع، لذلك كانت ردّة فعلهم عنيفة، وبدأ اليهود منذئذ يفكّرون بقتل يسوع لأنّه أعلن ألوهته.
حين جاء اليهود ليقبضوا على يسوع، ودليلهم إلى ذلك يهوذا الإسخريوطيّ، قال لهم يسوع: “مَن تطلبون؟”، أجابوه: “يسوع الناصريّ”. فقال لهم يسوع: “أنا هو”. فلمّا قال لهم: “أنا هو”، ارتّدوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض (يوحنّا 18: 4-6). لو كان معنى عبارة “أنا هو” عاديًّا، أي “أنا هو يسوع” لما جرى ما جرى وسقطوا على الأرض. فقوّة عبارة “أنا هو”، اسم الجلالة، جعلتهم يخرّون ساجدين أمام هذا الواقف أمامهم، خائفين مرتعدين، كأنّهم واقفون أمام يهوه نفسه، أمام الربّ القدير. الله نفسه، الإله الذي تكلّم إلى موسى، هو يسوع الماثل أمامهم منتظرًا أن يقبضوا عليه، لذلك كان وقع العبارة عليهم قويًّا إلى حدّ أنّهم لم يستطيعوا البقاء واقفين.
وترتبط عبارة “أنا هو” لدى يسوع، والإيمان به أنّه الإله الكائن قبل الدهور، بالخلاص. “إنّكم تموتون في خطاياكم لأنّكم إذا لم تؤمنوا أنّي “أنا هو”، تموتون في خطاياكم” (يوحناّ 8: 24). يسوع يغفر الخطايا، وهو عمل لا يؤدّيه إلاّ الله. فالمسيح قال للمخلّع في كفرناحوم: “يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك”، فكانت ردّة فعل الحاضرين أنّهم قالوا: “ما بال هذا يتكلّم هكذا؟ إنّه يجدّف. مَن يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده” (مرقس 2: 5-6). ثمّ يؤكّد يسوع لسامعيه أنّه المخلّص الآتي لينقذ الإنسان من الموت برفعه على الصليب، وأنّ الإنسان لا يقدر أن يخلص الإنسان، بل هو الإله وحده الذي يقدر أن يخلّص العالم: “قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعرفون أنّي أنا هو” (يوحنّا 8: 28).
في ذروة تنازله قبل تسليمه إلى الصلب، هو الذي يقول عنه الرسول بولس “الذي إذ هو في صورة الله لم يعتدَّ مساواته لله اختلاسًا، لكنّه أخلى ذاته آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه البشر” (فيلبّي 2: 6-7)، وبعد أن غسل الربّ يسوع أرجل تلاميذه، قال لهم: “أقول هذا لكم الآن قبل أن يكون حتّى إذا كان تؤمنون أنا هو” (يوحنّا 13: 19). يعلن يسوع لتلاميذه أنّ الإله نفسه، ذاهب إلى الآلام والموت على الصليب. يعلن أنّه هو الإله المتأنّس الذي اتّخذ جسدًا مثل أجسادنا، وصار بشرًا شبيهًا بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة، سيُرفع على الصليب من أجل خلاص العالم. يعلن لهم ذلك كي لا يشكّوا فيما بعد بكونه ابن الله، الإله الفادي.
كما جاءت في إنجيل القدّيس يوحنّا عبارة “أنا هو” على لسان الربّ يسوع مقترنة بصفات أخرى: “أنا هو خبز الحياة” (6: 48)، “أنا هو الخبز الحيّ” (6: 51) إنْ أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، “أنا هو نور العالم” (8: 12) مَن يتبعني لا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة، “أنا هو باب الخراف” (10: 6) إنْ دخل بي أحد يخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعًى، “أنا هو الراعي الصالح” (10: 11) الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف، “أنا هو الكرمة الحقيقيّة” (15: 1)، “أنا هو القيامة والحياة” (11: 25) مَن آمن بي وإنْ مات فسيحيا، “أنا هو الطريق والحقّ والحياة” (14: 6) لا يأتي أحد إلى الآب إلاّ بي… يعلن يسوع عبر أقواله، وبكلّ وضوح أنّه الإله الذي تحدّث عنه الأنبياء قديمًا، كما ورد في سفر حزقيال النبيّ: “ها أنا أسأل عن غنمي… كما يفتقد الراعي قطيعه، أفتقد غنمي وأخلّصها” (34: 11-12).
حين كان التلاميذ في السفينة، وكان البحر هائجًا بهبوب ريح شديدة، قال لهم المسيح الماشي على المياه وقد اقترب منهم: “أنا هو، لا تخافوا” (يوحنّا 2: 20). وكما تنبّأ كاتب المزامير: “هدّأ العاصفة فسكنت، وسكتت أمواجها” (مزمور 107: 29)، وهذا ما حصل حين قال لهم: “أنا هو”، فوصلت السفينة إلى برّ الأمان، “إلى الأرض التي كانوا منطلقين إليها” (يوحنّا 6: 21). لن يعصى على الذي شقّ البحر أمام موسى وشعبه أن يرسي السفينة إلى مينائها. لن يعصى عليه أن يجعل الكنيسة سفينة خلاص للمؤمنين به وللساعين إلى القداسة والحياة الأبديّة.