يبرز أمامنا في هذا الأحد الثاني من آحاد التهيئة للصوم، ثلاثة عناصر: الابن الصغير والابن الكبير والأب (صورة الآب السماوي). هذا المثل هو صورة عن حياتنا البشرية، لكن المميز هنا أن السيّد يشدّد في هذا المثل على القيمة المميزة لكلّ إنسان بغضّ النظر عن وضعه كان في برٍّ أم في خطيئة. فالإنسان هو “ابنٌ” مهما كان وضعه، في بيت أبيه أم في الغربة، فهو يبقى “الابن” وله المحبّة ذاتها.
الله محبّة. الله أبٌ يحبّ أولاده. الأب يتكلم، وحديثه مع ابنه الصغير غيره مع ابنه الكبير. فمع صغيره لم يقل كلمة عتاب بعد كل ما حصل. لم يقل له: يا ابني كنت عائشاً في هذا البيت على أفضل حال، لكنك مزّقت العائلة، قَسَّمت الرزق، وتركتنا نتألّم لابتعادك. من هم أولئك الذين آمنت بحبهم لك أكثر منّا؟لم يقل الأب هذه الأقوال إذ – كما يقول الإنجيلي لوقا – حالما رأى ابنه الصغير يعود صفح عنه وضمّه وقبّله. ومن الجليّ الواضح أن الأب في استقباله ابنه لم يقم بعملية محاكمة داخلية، لم يترك الأب مجالاً لأيٍ من هذه التساؤلات، بل أسرع لتوّه ودون تردد وعانق ابنه وقبّله وصفح عنه. كلّنا نتمّنى المصالحة مع بعضنا البعض، ولكن غالباً ما نسلك طرقاً مخالفة لطريقة هذا الأب الحنون. لأنّنا نطالب ولا نسامح عند اللقاء! نعاتب ونحاسب ونشترط إعادة الحقوق قبل الغفران. لكن بالنسبة لله المسألة هي “لقاء” وليس تصفية حسابات! “يا بني أعطني قلبك”!
ها هو الأب، بدون توجيه أي لوم إلى المبذّر، يأمر بأن يُجعل في إصبعه خاتم (علامة الوارث) وفي رجليه نعلان (علامة الرجل الحر، المتميّز عن العبد)، وبأن يذبح العجل المسمّن وينعم به. وجعل عبيده يأتون (بأفخر حلّة)، ويلبسونها الابن: فلنلاحظ أن الأمر لا يتعلق بأفخر الحلل التي كان الابن الشاطر يملكها قبل سفره، بل بأفخر حلّة يمكن أن يحولها البيت. فالله لا يكتفي فقط بجعل الخاطئ النادم يتنعم بالنعمة التي كان يمتلكها قبل الخطيئة، بل ينعم عليه بأكبر نعمة يستطيع نيلها، بحد أقصى من النعمة.
لا بدّ أنّ هذا الأب كان فرحاً في بيته مع ابنه الأكبر الذي لم يغادر. ولكن الغريب هو ما يشدّد عليه هذا المثل، وعدّة أمثلة حوله في الكتاب، أن تشير إلى “فرح أكبر” بعودة الابن الذي ضلّ، وبإيجاد الدرهم الضائع، والعثور على الخروف الذي تاه في الجبال. فهناك فرح خاص بهؤلاء! ويريد يسوع في هذه الأمثلة أن يؤكّد أنّ علينا “أن نفرح أكثر” بعودة الضال.
نعم يا أحباء مهما ابتعدنا وشردنا دعونا نفكر ولو للحظة وننفض عنا غبار الغربة ونأخذ القرار كما الابن الشاطر ((سأقوم وأمضي إلى أبي))، وأقول له: “يا أبي قد أخطأت إلى السماء وأمامك فاقبلني الآن كأحد أجرائك”، الله ينتظرنا بشوق لأن نعود باسطاً يديه ليضمنا إليه، ويغدق علينا بنعمه الكثيرة.
آمين
عظة أحد الابن الشاطر
الأرشمندريت ابراهيم داود
3/3/2013